اذا كانت انطلاقة مجلس الوزراء في مناقشة مشروع الموازنة لسنة 2017 أمس قد أعادت بعض "المهابة " المهدورة في مشهد تعنيفي ضد وسيلة اعلامية كاد يؤدي الى ما لا تحمد عقباه ليل الثلثاء الماضي فان ذلك لا يعني تجاهل الاشتباك الحاصل بين المساعي لاستدراك الازمات التي تفرخ تباعا في الطريق الشاقة لاعادة الانتظام الى مسيرة الدولة والتعقيدات التي يضفيها العجز السياسي عن ايجاد حل لمأزق قانون الانتخاب بات يشكل عنوانا عريضا لأزمة مفتوحة تحفز على توقع مزيد من المآزق.
بدا المشهد في اليومين الأخيرين كأنه ترجمة واقعية لكلام رئيس الوزراء سعد الحريري في خطاب الذكرى الـ12 لاغتيال الرئيس رفيق الحريري عن "المصالحة المستحيلة بين تطبيق اتفاق الطائف والوصول الى دولة مدنية حديثة لا تميز بين ابنائها ". واذ اورد الحريري هذه المعادلة من باب تشديده على رفضها وتأكيد مضيه في معاكستها، فان وقائع اليومين الاخيرين أوحت بمخاوف من تنامي التعقيدات في هذا المسار من خلال تجهم الاجواء السياسية المتصلة بالمساعي لايجاد ثغرة تنفذ منها ازمة قانون الانتخاب أولاً ومن ثم عبر تنامي ملامح الارباكات التي تحوط بترددات موقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من سلاح المقاومة مع صدور موقف رسمي للامم المتحدة يذكر بالتزامات لبنان بموجب القرار 1701. وبينما كان يفترض ان تنصرف الحكومة الى هم اقرار موازنة تصاعدت ردود الفعل السلبية على بنودها الضريبية سلفاً، جاءت واقعة الاعتداء الذي تعرضت له محطة "الجديد" التلفزيونية على ايدي متظاهرين من حركة "أمل" ليل الثلثاء لتزيد المشهد قتامة مع كل الملابسات السلبية التي واكبت الممارسات العنفية التي اتبعها المتظاهرون وتأخر القوى الامنية في فك الحصار عن مبنى المحطة.
واذا كانت الحكومة وضعت قضية "الجديد " بكل ملابساتها في عهدة القضاء للفلفة تداعياتها السياسية وخصوصاً بعدما اتخذت ملمحاً طائفياً تجاوز الاطار الاعلامي والسياسي، فان شروعها في در، مشروع الموازنة لم يحجب الصعوبات التي بدأت تواجهها انطلاقا من مواقف العدد الاكبر من الوزراء برفض فرض ضرائب جديدة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة في حين يحتوي مشروع الموازنة على سلة ضريبية واسعة سبق مجلس النواب أن أقرها تباعاً. هذه المفارقة الى حتمية تضمين الموازنة سلسلة الرتب والرواتب العالقة منذ زمن طويل أدت الى تشعب النقاش في جلسة مجلس الوزراء وتبين بوضوح ان ثمة مسلكا اضطراريا قد تلجأ اليه الحكومة باعادة "ترشيق" الموازنة ان من خلال فصل السلسلة عن الموازنة واقرارها لاحقا بمراسيم منفصلة وان من خلال اعادة النظر في بنود متضخمة في قطاعات توظيفية مختلفة. وبدا ان ثمة حاجة الى تلافي مسلك خلافي جديد ربما نفذ الى الصف الحكومي من باب الموازنة، فقرر الرئيس الحريري تكثيف جلسات مجلس الوزراء الخاصة باقرار الموزانة بحيث تعقد الجمعة المقبل جلسة أخرى تليها ثلاث جلسات اضافية متعاقبة الاسبوع المقبل.
"خطوات النملة"
أما على صعيد مأزق قانون الانتخاب، فيبدو ان التطور الوحيد الذي برز في كواليس المشاورات السياسية في الايام الاخيرة يتصل بتجديد الدفع نحو صيغة مختلطة لم تتبلور اطرها التفصيلية تماماً بعد في انتظار استمزاج الآراء والمواقف الاولية منها. وعلمت "النهار" من مصادر في الحزب التقدمي الاشتراكي أن رئيس الحزب النائب وليد جنبلاط قدم أفكاراً إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري في موضوع قانون الانتخابات تشكل عودة، مع بعض "الرُتوش"، إلى مشروع القانون المختلط بين الأكثري والنسبي الذي سبق للتقدمي أن اتفق عليه مع "تيار المستقبل" وحزب "القوات اللبنانية"، على أن يكون قضاءا الشوف وعاليه دائرة واحدة.
وأوضحت المصادر نفسها أن القبول بشيء من النسبية في القانون يتضمن تطويراً للمشروع الثلاثي المشترك على قاعدة التمثيل الصحيح للجميع، وأيضاً على أساس القاعدة الأهم عند الحزب التقدمي، وهي المحافظة على العيش معاً في الجبل والمصالحة التاريخية بين أبنائه، مذكرة بإبداء جنبلاط كل الاستعداد للشركة لاحقاً في الانتخابات مع كل القوى الموجودة في الجبل.
ورأت المصادر أن الموضوع بعد هذا التطور بات في مكان آخر، وأن الحزب التقدمي الاشتراكي قدم أقصى ما يستطيع القبول به في مبادرة حسن النية هذه، وتالياً لم يعد ممكناً القول إنه يقف في صف معرقلي تحقيق الإرادة العامة المطالِبة بقانون جديد للانتخاب. وخلصت إلى أن المبادرة صارت بين يدي الرئيس بري الذي سيتولى الإخراج المناسب لطرحها وتسويقها. وبالفعل لمّح الرئيس بري أمس أمام النواب الى هذه الافكار، موضحاً ان جنبلاط قدم طرحاً خطياً عن نظام مختلط ينطلق من معيار واحد ويجعل الشوف وعاليه دائرة واحدة لكنه تكتم على التفاصيل. وتتحدث معلومات عن ان جنبلاط تقدم خطوة في ما يطرحه بطرح القانون الاكثري معدلاً في اتجاه النسبية بما يرضي الافرقاء الاخرين بحيث يمكن بعد الانتخابات النيابية المقبلة الذهاب الى اعداد مشروع قانون لمجلس نواب خارج القيد الطائفي والشروع في انشاء مجلس الشيوخ.
وتقول مصادر معنية بالمشاورات والاتصالات الجارية إن اجراء الانتخابات بات مرجحا بنسبة كبيرة في الخريف المقبل على رغم توقع توجيه وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق الدعوة الى الهيئات الناخبة الاسبوع المقبل، اذ ان المساعي للاتفاق على قانون جديد تخطو خطوات النملة ويصعب التراجع عنها، الى احتمالات أخرى باتت خارج الحسابات السياسية.