لا يزال الوعد الذي قطعه الرئيس الاميركي دونالد ترامب في حملته الانتخابية بإقامة مناطق عازلة أو آمنة للسوريين، والذي بدأ يشكل أخيراً محور مفاوضات إقليمية، لغزاً كبيراً للأطراف كافة. فـ «قطعة الأرض الفسيحة التي ستشكل منطقة آمنة وجميلة يقيم فيها السوريون وينعمون فيها بالسعادة» وفق ما سبق لترامب أن قال حرفياً، تشبه المضاربة العقارية غير المحسوبة، أكثر منها الخطة السياسية - الأمنية المحكمة. ذاك أن المشروع الذي من شأنه وقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا، ويفترض أن تعرض وزارة الدفاع الأميركية خطته خلال تسعين يوماً، تحول إلى ورقة ضغط وتجاذب بين اللاعبين الإقليميين قبل أن يتخذ شكلاً مكتملاً على الورق، يتيح مناقشة حيثياته وشروطه ومعرفة ما سيقدم للسوريين أنفسهم. فالتجارب السابقة لا تحمل كثيراً على التفاؤل، لا سيما إذا تذكرنا أن مجزرة سيربرينتسا ذاتها وقعت في منطقة يفترض أنها كانت آمنة.
ومن غير الواضح حالياً كيف سيتم إنشاء هذه المناطق، وما هي حدودها الجغرافية الدقيقة، والدول الراعية لها، وما سيترتب على هذه الدول من مسؤوليات وأعباء وما قد تجنيه في المقابل من مكتسبات. وإن كان يحكى حالياً عن منطقتين في الشمال السوري، ومنطقة في الغرب (لجهة الساحل) وأخرى في الجنوب (لجهة درعا والقنيطرة) إلا أنه لا يوجد أي تصور بعد للإطار القانوني والتشريعي للبلدان التي ستقع هذه المناطق تحت إدارتها ولأي فترة من الزمن سيستمر ذلك وإذا كان تمويلها سيتم برعاية أممية عبر صندوق خاص كما هي العادة أم ستتكفل به الدول الراعية في شكل مباشر. ويفتح ذلك على دور الأمم المتحدة في سياق قرار من هذا النوع في الوقت الذي أعلن مفوضها السامي لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي صراحة أن فكرة «مناطق آمنة هي مضيعة للوقت وغير قابلة للتطبيق». وعلى افتراض دفع مجلس الأمن باتجاه إقامة مناطق آمنة، يبقى من غير الواضح كيف سيكون الموقفان الروسي والصيني وإن كان البلدان أو أحدهما سيلجأ إلى حق النقض (فيتو) مرة جديدة.
وإن كانت واشنطن تسعى إلى الضغط على دول الخليج العربية لتحمل نفقات إنشاء «مناطق آمنة»، وإرسال قوات عربية مشتركة تكون بمثابة «قوات حفظ سلام»، تبقى تركيا العقدة الأصعب في عقد الشراكات المقبلة. فالرئيس ترامب يدرك أن أي منطقة عازلة، أو آمنة، تعتمد في شكل مباشر وأساسي على تعاون الجانب التركي، وأنه، مهما كانت العلاقة سيئة أو متذبذبة بين البلدين تبقى تركيا شريكاً إقليمياً لا يمكن العمل من دونه، ولكن أيضاً يصعب العمل معه. فتركيا لها مخاوف كما لها مصالح، وهي إذ تملك مفاتيح الحدود بالاتجاهين السوري والأوروبي، لم تتأخر في إبداء رغبتها في التعاون بعد فترة من التلكؤ والاكتفاء بالموافقات المبدأية، لكنها في الوقت ذاته تتمنع وتتشرط.
فقد أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان أخيراً أن قواته ستتجه شرقاً نحو منبج والرقة بعد استعادة الباب بهدف «إقامة منطقة آمنة خالية من التنظيمات الإرهابية، لمنع نزوح اللاجئين»، لكنه عاد وربط شرط إقامة المنطقة الآمنة بـ «حظر للطيران»، وهو تحديداً ما تتخوف منه الإدارة الاميركية وتتحاشى الخوض فيه قبل نيل ضمانات روسية وإيرانية. كذلك، فإن الهجوم على منبج بحد ذاته، يحمل استفزازاً مباشراً لواشنطن لأنه يضع القوات التركية في مواجهة مباشرة مع «وحدات حماية الشعب الكردية»، حليف أميركا السوري في حربها على الإرهاب.
وإلى ذلك، تشهد العلاقات التركية - الأميركية تدهوراً كبيراً منذ نهاية عهد الرئيس السابق باراك أوباما ثم بعد إعلان ترامب رفض دخول مواطني 7 دول إلى الأراضي الأميركية، وهو ما ردت عليه أنقرة بتغريدات شبه رسمية على تويتر ترحب «بالكفاءات التي تطردها أميركا».
والحال أنه منذ محاولة الانقلاب في تموز 2016، تركز أنقرة على مطلبين أساسيين هما تسليمها الداعية فتح الله غولن المقيم في كاليفورنيا والمتهم بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية، ووقف الدعم الأميركي للانفصاليين الأكراد.
وذلك ما يسعى أردوغان إلى أن يحققه الآن مع الإدارة الجديدة بتقديم إغراءات تعاون في سورية، سواء عبر الشراكة في الحرب على الإرهاب أو وقف تدفق اللاجئين الذي قد يتحقق بإقامة مناطق آمنة وإدارتها بكلفة ضئيلة نسبياً.
لكن اللافت أنه حتى الساعة، يشكل رفض «المناطق الآمنة» واعتبارها تهديداً لوحدة الأراضي السورية، قاسماً مشتركاً بين الخصوم قبل الحلفاء، من الرئيس السوري بشار الأسد إلى المعارضة بكل أطيافها. وحده الجانب اللبناني الذي دخل أخيراً على خط المفاوضات، دفع بوضوح باتجاه شريط آمن على حدوده الشرقية مع سورية، يفترض أن يمتد بين القلمون والقصير. وهي منطقة وإن صغيرة جداً، لكنها تعبر عن رغبة حكومية لبنانية يشاركها فيها «حزب الله» في التخلص أولاً من العدد الأكبر من اللاجئين السوريين داخل الأراضي اللبنانية ويتيح ثانياً لـ «حزب الله» أن يبقى متحكماً بالمنطقة من الناحية الأمنية والعسكرية فيما يحفظ خاصرته في القلمون ومحيط دمشق.
وإضافة إلى «الشريط اللبناني» المذكور، تتمحور الأفكار الأولية للمناطق الآمنة حول المنطقة الجنوبية وتشمل محافظتي درعا والقنيطرة، والمنطقة الغربية وتشمل الساحل السوري أو ما تعارف على تسميته «سورية المفيدة»، فضلاً عن حمص ودمشق وهي غير نهائية بعد، ومنطقتين في الشمال، واحدة كردية برعاية أميركية لجهة شرق الفرات تمتد حتى الحدود العراقية، ومنطقة تركية بين جرابلس وعفرين بعمق 35 كلم، ومساحة بين 4 و6 آلاف كلم2.
وعلى رغم أنها الأكثر وضوحاً حالياً، إلا أن المنطقة الجنوبية هي الأكثر إثارة للتساؤلات والمخاوف كونها أصلاً جبهة باردة ولا تشهد أعمالاً عسكرية تستدعي إعلانها منطقة «آمنة» وفق كثيرين. فقد تساءل مصدر رفيع في الائتلاف السوري المعارض فضّل عدم ذكر اسمه: «وهل تلك منطقة غير آمنة أصلاً؟». ونوه المصدر برفض اقتراحات المناطق الآمنة لأنها تعني بقاء «مناطق غير آمنة» حيث تتم إطالة أمد الصراع وتأجيل الحل الشامل. كذلك لم يخف المصدر تخوفه من نيات مبيتة قد تفضي إلى تقسيم البلاد، انطلاقاً من «مناطق نفوذ» يتم رسمها الآن بتسمية «مناطق آمنة» ولا تعرف لها مرجعية سورية واضحة. فهل هو النظام أم المعارضة أم إنها ستترك لإدارة الدول الراعية في شكل مباشر أو عبر أحد أدواتها المحليين؟
وقال الباحث السياسي التركي باكير أتاجان المقرب من الحكومة وأوساط حزب «العدالة والتنمية»: «هناك مخاوف كبيرة من التقسيم في سورية، عبر إقامة مناطق نفوذ ودويلات قد تتحول لاحقاً إلى أمر واقع». وأردف: «الآن تركيا منحت موافقتها المبدأية على المناطق العازلة من أجل حماية المدنيين وهو ما تطالب به أصلاً منذ مدة. ولكن إذا اتضح أن خريطة المناطق الآمنة تصب في هذا الاتجاه (التقسيم)، فإن تركيا سترفض رفضاً قاطعاً لأنها تتمسك بوحدة الأراضي السورية ووحدة الشعب السوري، ولأن أي تقسيم لسورية أو فيديرلية أو إدارات ذاتية، يعني مستقبلاً تقسيماً لتركيا».
واعتبر أتاجان أن هناك مؤشرات متزايدة «لمنح وصاية الجولان والمنطقة الجنوبية للأردن وإسرائيل مباشرة» لأنها تشعر بأنها مهددة إذا طرأ أي تغيير على نظام الأسد، ولأنها قد تستفيد لاحقاً من الجولان في استكمال بناء المستوطنات، كما أن «لها مصلحة من إقامة دولة كردية في الشمال السوري كي لا تبقى الدولة العرقية الوحيدة في المنطقة».
واعتبر أتاجان أنه إذا نجح التقسيم في سورية، واستقر بعد سنوات على دويلة كردية وأخرى علوية وثالثة سنّية، قد يشكل «نموذجاً مستقبلياً لتركيا»، وقال: «درعا هي أهم منطقة لأنها قد تضم لاحقاً إلى الأردن والجولان إلى إسرائيل كيلا تصبح منطقة عربية مناوئة لها. وفي الشمال، تقام شرق الفرات الدويلة الكردية تحت مسميات حكم ذاتي، أو كانتون تمهيداً للدولة الكردية الكبرى التي تضم أجزاء من تركيا وإيران والعراق». وفي الأثناء يترك الوسط السوري ساحة قتال ضد «الإرهاب»، فتصبح محافظة إدلب خزاناً بشرياً وعسكرياً يشهد استمرار المعارك ويبقى مصيرها معلقاً إما «باتفاق أميركي - روسي لاحق» وفق ما قال أتاجان، أو بحسم عسكري يفضي إليه استنزاف الفصائل في الاحتراب الداخلي وفق مصدر سوري.
وأوضح أتاجان أنه من مصلحة تركيا جعل شمال سورية كله مناطق آمنة لإيواء اللاجئين سواء شرق الفرات أو غربه، وصولاً إلى ريف اللاذقية لحماية الجيش الحر الموجود فيه «لأنه صحيح أن الشعب السوري هو الذي يموت، لكن تركيا هي الخاسر الأكبر». وبذلك ينكمش الدور التركي لتقتصر المنطقة الفعلية التي قد تسيطر عليها تركيا على الشريط بين جرابلس وعفرين بعمق 35 كلم. «لأنها لا تستطيع تأمين أكثر من ذلك وهذا ما تحتاجه لضبط حدودها في وجه الإرهاب». علماً أن تركيا كانت طالبت منذ نهاية 2014 بمنطقة آمنة في الشمال أوسع مما هي عليه اليوم، لكنها أرفقت طلبها بإمكان استخدام القوة العسكرية لكونها في حاجة إلى تدخل قوات برية وجوية لتأمين حمايتها، لكن الطلب قوبل حينذاك بالرفض.
إلى ذلك، أعلن أتاجان أنه في حال نشوء «مناطق آمنة» بشروط مقبولة، سيكون هناك تشجيع حقيقي من الحكومة التركية لعودة النازحين عبر إغراءات كثيرة منها الأمن، وإصلاح المساكن، وإيجاد فرص عمل، والمثال على ذلك جرابلس التي ستكون «عاصمة» المنطقة شمالاً. وعما إذا كان ذلك يعني إعادة اللاجئين السوريين «غير المفيدين»، ومن يشكلون عبئاً اقتصادياً على الحكومة التركية بعد إعلان تجنيس أصحاب الكفاءات والمستثمرين والبدء بدفعة أولى من 10 آلاف شخص، قال أتاجان: «مع الوقت ستقوم تركيا بتجنيس كل من يبقى على أرضها، وذلك دأبها مع جاليات لاجئة كثيرة. لذلك، هي حريصة الآن على وقف تدفق المزيد من اللاجئين وتشجع على عودة من يستطيع العودة. فنحن ننسى أنه إضافة إلى السوريين (حوالى مليونين ونصف) هناك جنسيات أخرى منها مثلاً نصف مليون عراقي».
وعلى الجانب السوري، فنّد كبير المفاوضين في الهيئة العليا للمفاوضات المحامي محمد صبرا معنى «المنطقة الآمنة» وانعكاسها على الواقع الحالي، فقال: «في التعريف المدرسي المبسط هناك 3 شروط لإقامة مناطق عازلة: أولاً أن يكون الإقليم الدولي في حالة صراع، وثانياً وجود قرار من مجلس الأمن، وثالثاً تأمين ملاذ آمن للمدنيين وإيصال المساعدات لهم بعيداً من الأعمال العسكرية المستمرة في مناطق أخرى. وذلك لا ينطبق على الحالة السورية التي هي حالة سياسية بالدرجة الأولى وليست أمنية - حمائية».
وقال صبرا: «في التجارب السابقة كالعراق، أنشئت منطقة حظر طيران في الشمال لأنه كان هناك تفوق عسكري للنظام العراقي على معارضيه، وهو تفوق بالطيران تحديداً، ولما أزيح الخطر، أصبحت المنطقة آمنة. التجربة الثانية كانت في البوسنة والهرسك عام 1992، وهي تمت بقرار من مجلس الأمن (الرقم 819) وكان الهدف أيضاً سياسياً وهو منع الهجرة البوسنية إلى أوروبا، وهذا هو المبرر الذي تحاول الإدارة الأميركية سوقه في الحالة السورية، لكن ذلك يتعارض مع فكرة المنطقة العازلة. لأن ترامب يصور الوضع كأنه حرب بين دولتين وستتوصلان إلى اتفاقية عزل وتأتي بعد ذلك قوات حفظ سلام. كما هي الحال مثلاً بين سورية وإسرائيل وفق اتفاقية» 1974.
وتابع: «إن كان الهدف حماية المدنيين، فهناك بدائل للمناطق الآمنة لم تطبق. لكن الواضح أن الأهداف سياسية فهذه وسيلة لحماية المدنيين إلا أنها حالياً تقارب إدارة الأزمة، لا للحل». وهناك مثلاً قرار الأمم المتحدة حول «المسؤولية عن الحماية» الذي اتخذ في 2005 على أثر مجازر رواندا، ويلزم دول العالم بأن تتدخل في شكل جماعي أو منفرد لحماية مدنيين يتعرضون للإبادة أو لجرائم حرب في حال فشلت الجماعات المحلية في حمايتهم. وكانت المعارضة السورية طالبت مراراً بتفعيل هذا القرار، لا سيما بعد جرائم السلاح الكيماوي، لأنه بذاته يكفي لحماية المدنيين من دون الحاجة للجوء إلى الفصل السابع، لكن من دون جدوى. كذلك، هناك قرار وقف إطلاق النار 22/54 أو «فرض الامتثال» الذي صوت عليه مجلس الأمن بالإجماع في 2015 ولم يطبق أيضاً.
ويتفهم صبرا مخاوف التقسيم التي تثيرها المناطق الآمنة، ومنها أن حظر الطيران في شمال العراق مهد لإقامة الإقليم الكردي، وكذلك أعيد رسم خرائط البلقان وفق مناطق النفوذ، إلا أنه يستبعد إمكان تطبيق ذلك في سورية نظراً إلى التداخل الجغرافي وعدم وجود منطقة سورية نقية طائفياً أو عرقياً أو مذهبياً». وقال: «لا يمكن أن ينجح ذلك إلا بحملات تهجير وتغيير ديموغرافي هائلة لإقامة توازن اجتماعي من لون واحد في كل منطقة، خصوصاً على ضفاف العاصي، وذلك شبه مستحيل».
وبعيداً من مكتسبات القوى الإقليمية من احتمال إقامة مناطق آمنة، وما ستقدمه تلك المناطق الموعودة للسوريين أنفسهم، فهو وفق صبرا «ديمومة الصراع بمستويات عنف أقل، وتبريد لجبهات الصراع بين النظام والمعارضة المسلحة لمصلحة تفرغ الأطراف كلها لمحاربة «داعش».