قبل حوالي ست سنوات بدأت الشعوب العربية المقموعة بثورات في تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا ضدّ أنظمتها، اطلق الاعلام على تلك الثورات لقب الربيع العربي، غير ان هذا الربيع لم يحقق ما كان يؤمل منه، فغرقت شعوب تلك البلدان بحروب وفتن.
في أسئلة وجهناها للمفكر الاسلامي العلامة السيد محمد حسن الامين حول فشل تلك الثورات بشكل عام اذا استثنينا تونس نسبيا، ولماذا غرقت شعوب تلك البلدان التي ثارت على الدكتاتوريات بحروب أهلية، ولماذا ما زالت بعيدة الديموقراطية، رغم انهيار الأنظمة يجيب سماحته:
” ربما كانت مسألة الحرية واعتبار غيابها لدى الشعوب هي المسألة الأساسية التي كان يطرحها المفكرون الاجتماعيون بوصفها مصدراً لمظاهر التخلف والتراجع لدى شعوب المنطقة الإسلامية عموماً، وكان يجري التأكيد باستمرار، على أن اكتشاف أوروبا للحرية والتقدم في مجالها هو السبب الذي جعل منها دولاً متقدمة وجعلنا متخلفين، وقد بلغت درجة المبالغة في هذا الأمر إلى الحد الذي كادت أن تنحصر المشكلة بموضوع الاستبداد وغياب الحريات، ولذلك عندما انطلق ما سمي بالربيع العربي تفاءلنا كثيراً بطروحات المفكرين والرافضين للأنظمة الاستبدادية الحاكمة بأن بوابة التقدم قد انفتحت الآن على مصراعيها وأن الشعوب بواسطة انتفاضاتها التي أطلف عليها مجازاً “الربيع العربي”، جعلتنا أمام الفرص الكبيرة للتحرّر، أي للتقدم وامتلاك الديموقراطية وتحرير الطاقات العربية المكبّلة التي ستنطلق مباشرة باتجاه التقدم والازدهار والتنمية واللحاق بالشعوب المتقدّمة، ولربما لم يزل حتى الآن من يرى الأمر على النحو الذي ذكرناه وأن الحروب والصراعات الداخلية داخل هذه المناطق التي انطلقت فيها الثورات الشعبية إنما هي شكل من أشكال المخاض الذي لا بد منه قبل الوصول إلى ولادة العصر الجديد الذي نطمح إليه”.
ويوضح السيد الأمين وجهة نظره قائلا: “إننا نرى أن في هذا التفاؤل عبارة عن مزيد من المبالغة، ونرى أن أسباب التخلّف لا تعود إلى انحسار الحريات فحسب، وأن هناك أسباباً تتعلّق في مجالات أخرى، وهي المجالات التي تعود إلى التكوين الفكري والعقلي والاجتماعي المنغرس عن استثمار الحرية استثماراً إيجابياً، فمن المفارقات التي ظهرت تحت شعار الحرية، أن بعض هذه الشعوب استخدمت ما يسمى بالحرية في توجهات أدّت إلى حرية الصراع بين الطوائف والملل والأحزاب والمذاهب، فيما هدف الحرية، أو من أهدافها الأساسية هو إنتاج المواطنة والتحرّر من التمسك بكل أشكال الانقسامات الاجتماعية التي فرضت عليها إما بسبب الجذور التاريخية لنشأتها أو بسبب المرحلة الاستعمارية التي عزّزت هذه الانقسامات الطائفية والمذهبية والعرقية والفئوية فعاشت هذه البلاد في ظل هذه الانقسامات وترسخت الانتماءات اللاوطنية على حساب الانتماء الوطني الذي استولدته في عالمنا المعاصر حركات التحرّر في البلاد المتقدمة حالياً، أي أننا باختصار غالينا بجدوى الحرية ونسينا أن للحرية شروطاً ذاهبة يجب أن تتوفر في الجماعات ولدى الشعوب وهذا يشبه في نظرنا المثال الذي سوف نذكره في هذا المجال ولو أن فيه بعض القسوة، وهو مثال المرحلة التي أعلن فيها الرئيس الأميركي لينكولن منع العبودية وتحرير العبيد، حيث برزت ظاهرة قد تبدو لأول وهلة غريبة، وهي أن وفوداً كثيرة من العبيد زحفوا إلى القصر الأبيض ليطالبوا الرئيس لنكولن بإلغاء القرار، لأن هؤلاء العبيد عندما أصبحوا يواجهون الحرية وهم غير معتادين عليها شعروا أنها بمثابة قيد لهم، وأنهم عندما كانوا عبيداً لم يكونوا مسؤولين عن أنفسهم، أما عندما أصبحوا أحراراً هالتهم تلك المسؤولية في أن عليهم أن يتبروا أنفسهم.”
ويستطرد السيد الأمين: “أورد هذا المثال القاسي، ولكن مع الأسف فإنني عندما أرى الطوائف تتقاتل فيما بينها داخل القطر الواحد، أشعر بكثير من الأسى والألم، وأشعر كأن هذه الشعوب لا تستحق هذه الحرية، وأن ما يحصل هو استمرار للاستبداد، وأن هذه الشعوب مع الأسف في أول فرصة مؤاتيها من أجل أن تنتقل إلى ممارسة المواطنة والتخلي عن عصبيات ما قبل الدولة الحديثة، عادت وانكفأت إلى جذورها التي كانت تشكل أطر اجتماعها السياسي والديني والوطني، والمؤسف أن هذه الغرائز ليست من معطيات الدين الذي تنتمي إليه، ولكن علينا أن لا ننسى أن الإسلام وحتى المسيحية، بل أكاد أقول جميع الأديان لم تنجح إلا نجاحاً يسيراً في انتزاع هذه الغرائز الفئوية والطائفية”.
وبالنسبة للحل، برأي السيد الأمين فيقول “إنه يبدو لي بصورة أكثر إلحاحاً ووضوحاً بعد هذه التجربة التي مررنا بها أن نعيد النظر في قانون التحولات، أعني تحولات الشعوب والأمم من عصور ما قبل الحداثة إلى العصور الحديثة الذي يرتبط أكثر ما يرتبط بضرورة إنتاج وعي جديد، وثقافة جديدة، ولربما ذهبت إلى القول أن شعوبنا هي بحاجة إلى ثورة ثقافية كمادة لإنتاج وعي مختلف ومتجدّد، وفي الحق أن هذا الأمر لم يكن غائباً عن أبحاث سابقة كنت دائماً أؤكد عليها وكنت اختصرها بمفهوم ضرورة التجدّد الحضاري الإسلامي، وواضح أن التجدّد الحضاري يستلزم تجديد الوعي والثقافة، لا في إطار نخب محدودة في المجتمع وإنما في الإطار الاجتماعي الشامل للشعوب العربية والإسلامية، لأنها هي شئنا أم أبينا التي تقرر مصائر الثورات والانقلابات السياسية، فإذا كان للنخب الثقافية الفكرية من دور، فهو سيكون دور طويل المدى يقوم على تسريع إنتاج الوعي الجديد الذي أشرنا إليه وهو أمر قد يكون شاقّاً، لأنه يصطدم بالمسلمات الدينية والاجتماعية التي تعيشها الأمة، ولكن مع ذلك لا بد لهذه النخب من أن تدفع ضريبة دورها في إحداث هذا التحوّل التاريخي المرتقب.”