هل تستطيع روسيا "لجم" النفوذ الإيراني في سوريا وما هي الأدوات التي تستطيع الارتكاز إليها؟ السؤال أصبح مطروحا بقوة في الأوساط الدبلوماسية الغربية خصوصا بعد أن أخذت العلاقات الأميركية - الإيرانية منحى تصعيديا منذ وصول الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض وجعله تقليص النفوذ الإيراني في هذا البلد أحد هدفين رئيسيين "مع القضاء على داعش" لسياسة الإدارة الأميركية الجديدة.
تقول مصادر دبلوماسية غربية لـ"الشرق الأوسط"، إن المقاربة الأميركية للدور الإيراني في سوريا "تنخرط في السياق العام لمواجهة تضخم دور طهران في مجمل الشرق الأوسط"، أكان ذلك في الخليج واليمن أو في العراق وسوريا ولبنان، ناهيك عن ثلاثة ملفات رديفة هي النووي والصاروخي والإرهاب. وتضيف هذه المصادر أن لسوريا "خصوصية عائدة للحضور الروسي الكبير فيها، ما يعني أن الرغبة الأميركية لا يمكن أن تتحقق من غير تفاهم أو صفقة مع موسكو". وبكلام آخر، وفق المصادر نفسها، فإن أوراق الضغط الأميركية في سوريا "محدودة" و"يفترض أن تمر حكما بالتعاون مع موسكو". لكن هذا المعطى يقود بشكل آلي، بحسب هذه المصادر، إلى تساؤل ثلاثي الأضلع: هل موسكو مستعدة للاستجابة للرغبة الأميركية؟ وهل هي قادرة على ذلك؟ وأخيرا ما هو المقابل الذي تطلبه، ومن وكيف يجب أن يدفع؟
حتى اليوم، لم يصبح التنافس الروسي - الإيراني في سوريا علنيا رغم أن المؤشرات التي تدل عليه تواترت في الفترة الأخيرة وتحديدا في موضوع معركة حلب ووقف النار وخروج المسلحين من ثاني المدن السورية، واتفاق أنقره الذي ضمن الهدنة واجتماع آستانة وإصرار موسكو على تمثيل واشنطن مقابل رفض إيراني قاطع. ويلاحظ المراقبون أن إيران سعت أكثر من مرة لتخريب الهدنات التي عملت من أجلها موسكو من خلال الميليشيات التابعة لها وعبر فرض شروط جديدة "كما حصل في حلب"، كما أنها كانت دائما تدفع باتجاه استمرار المعارك والحل العسكري ورفض التفاوض بين النظام وفصائل المعارضة المسلحة.
الثابت الذي لا تقبل الجدل أن النظام السوري يدين ببقائه للعكازتين الروسية والإيرانية. ولم يعد سرا أن طهران "وبالطبع النظام" ألحت على موسكو للتدخل العسكري الروسي المباشر والمكثف في سوريا في صيف عام 2015، عندما كانت قوات النظام تتراجع على كل الجبهات رغم الدعم العسكري الذي وفرته طهران له من خلال الميليشيات الشيعية التي عبأتها، فضلا عن عناصر الحرس الثوري الذين لم يلعبوا فقط دور المستشارين العسكريين. وخلال السنوات الست المنقضية، تقاسمت موسكو وطهران الأدوار الأولى، ووفرت الحماية الدولية "مجلس الأمن" للنظام ووفرت له الدعم السياسي والدبلوماسي والسلاح والعتاد وقارعت الأميركيين والغربيين بشكل عام قبل أن تتدخل بطيرانها مباشرة وترسل أسطولها مقابل الشاطئ السوري لتغيير ميزان القوى ميدانيا. والثانية، دعمت النظام بالمال والسلاح وجندت له آلاف الميليشيات وأمسكت الأرض ودفعته لإبقاء سيطرته على ما يسمى سوريا المفيدة... وكانت النتيجة أن النظام بقي في مكانه رغم ضعفه وحسن أوضاعه العسكرية والتفاوضية، ولكن من غير أن يكون قادرا على حسم المعركة ميدانيا أو حتى أن يستمر في تحقيق تقدم من غير دعم الروسي المباشر. والدليل على ذلك بحسب المصادر الغربية أن النظام "عاجز" بمواجهة "داعش" عن المحافظة على مواقع كانت تحت سيطرته كما في دير الزور وقبلها في تدمر.
اليوم، يبدو واضحا أن علاقة "العكازتين" ستذهب في اتجاهات متباعدة وأن صراعا على النفوذ أخذ يسمم العلاقة بينهما. وبالنظر لما وقعته الحكومة السورية مع الطرف الروسي من اتفاقيات عسكري غير محدودة زمنيا "قاعدة حميمي الجوية وقاعدة طرطوس البحرية"، وما حصلت عليه طهران من امتيازات وعقد اقتصادية وتجارية يبين أن المنافسة انطلقت حقيقة وأن كل طرف يسعى لترتيب أوراقه حتى قبل أن تنتهي الحرب في سوريا. وترى المصادر الغربية أن "مصلحة" روسيا اليوم في سوريا تكمن في "ترجمة" الانتصارات العسكرية إلى انتصارا ت سياسية بمعنى الوصول إلى وضع حد للحرب القائمة وفق التصور الروسي والاستفادة من أن موسكو هي التي تمسك اليوم إلى حد بعيد بالورقتين العسكرية والسياسية، مستفيدة مما قامت به ميدانيا ومن "الغياب" الغربي والإقليمي الداعم للمعارضة. ومن أجل هذا الغرض، تحركت الدبلوماسية الروسية بنشاط ولعب الوزير سيرغي لافروف دور "المحرك" لاتفاق وقف النار ولاجتماع آستانة، وهو الذي يطرح تصورا لدستور سوري ولعملية سياسية سريعة ربما قبل أن يعود الدور الأميركي إلى المنطقة مجددا مع الرئيس ترمب. وفي هذا السياق، حصل التقارب الروسي - التركي الذي تنظر إليه طهران بكثير من التشكيك.
وترى موسكو اليوم، وفق المصادر الغربية، أن الحل السياسي وحده هو القادر على وضع حد للحرب في سوريا وأنها "الجهة القادرة" على فرضه على النظام. وبالمقابل، فإن طهران "تلعب ورقة الميليشيات وإضعاف سلطة الدولة والمؤسسات السورية وإبقاء الأسد على رأس سلطة رهينة بيديها"، على غرار ما يحصل في العراق مثلا. ووفق تقارير غربية، فإن إيران ترى في استمرار الحرب "ورقة يمكن أن تفاوض عليها"، لاحقا، فضلا عن تمكينها من التمسك بشروط الحل التي تضمن لها مصالحها في مرحلة ما بعد الحرب.
ثمة إجماع على أن إيران "استثمرت" في النظام السوري، بمعنى أنها ربطت مصالحها ببقائه وبقاء الرئيس الأسد على رأسه. ولذا، فإن حلا سياسيا تقبله المعارضة على ضعفها وضعف الأطراف الداعمة لها سيعني بشكل ما تقاسم السلطة بين النظام والمعارضة، وهذا ما من شأنه أن يشكل تهديدا لمصالح إيران.
هكذا يتبدى اختلاف الأهداف وافتراق المصالح بين موسكو وطهران، ويبان أن منع طهران من وضع اليد على سوريا ليس فقط مصلحة أميركية بل أيضا روسية. لكن تحجيم الدور الإيراني لن يكون بالأمر السهل بالنسبة لموسكو، بفضل التغلغل الإيراني في الأجهزة الأمنية والعسكرية السورية ووجودها الميداني من خلال القوات التي تمولها وتسلحها وبفضل دعايتها السياسية وحضورها الديني والاقتصادي والاجتماعي. فضلا عن ذلك، فإن تصاعد المواجهة بين واشنطن وطهران سيدفع الأخيرة إلى التمسك بكل ما تعتبره «أوراق قوة» في يديها من أجل الضغط على الجانب الأميركي، ومن أهمها حضورها في سوريا.
من هذه الزاوية، تعتبر مصادر فرنسية رسمية أن الطريق إلى "احتواء" النفوذ الإيراني في سوريا "يمر عبر عملية انتقال سياسية لا تعني بالضرورة رحيل الأسد الفوري، لكنها تمكن من إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وبالتالي انتفاء الحاجة للميليشيات التي استُحضرت لدعم النظام". وتذهب هذه المصادر أبعد من ذلك إذ قالت لـ"الشرق الأوسط" إنه بذلك "سيكون للرئيس الأسد دور" في خفض الحضور الإيراني المباشر وغير المباشر إذا اطمأن لمصيره ومصير نظامه. فضلا عن ذلك، فإن اتفاقا سياسيا سيكون وجهه الآخر اتفاق الجميع في الداخل والخارج على التركيز على محاربة "داعش" والنصرة، وهو هدف مشترك لواشنطن وموسكو ولكافة العواصم الإقليمية.
يبقى أنه ليس لإيران، في مواجهتها القادمة مع واشنطن، مصلحة في أن تفقد الدعم الروسي على المستوى الدولي. ولعل أفضل دليل على ذلك أن تحجج واشنطن بالاختبار الصاروخي الإيراني للقيام بحملة سياسية واسعة على طهران واجهه موقف روسي اعتبر أن هذه التجربة لا تنتهك الاتفاق النووي والقرار الدولي الذي ثبته في تموز من عام 2015.