العراق هو مساحة تتيح لإيران توجيه رسائل تجاه واشنطن، حيث تسعى طهران في مرحلة عض الأصابع، إلى تنبيه واشنطن بقدرتها على فتح أكثر من جبهة في وجه السياسة الأميركية، وإظهار الكلفة العالية لأي مواجهة مع إيران.
بدأت لعبة عضّ الأصابع بين الإدارة الأميركية والقيادة الإيرانية في ظلّ المواقف التصعيدية المتبادلة بينهما. مواقف عالية النبرة يطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ توليه الرئاسة، يرددها خلفه أعضاء الإدارة من دون توقف، فالرئيس الأميركي لم يتوقف عن تكرار اعتراضه على الاتفاق النووي الإيراني، فيما وصف وزير الدفاع إيران بالدولة الأكبر في العالم الراعية للإرهاب بعد التجربة الصاروخية البالستية التي قامت بها إيران مطلع الأسبوع المنقضي.
القيادة الإيرانية أعلنت في المقابل عن بدء مناورات عسكرية قرب طهران أطلقت عليها اسم “المدافعون عن سماء الولاية” في تحدّ للموقف الأميركي، في وقت حرصت إيران على إظهار أنّ المناورات كانت مقررة منذ أشهر ولم تأتِ في سياق الرد على الأميركيين، علماً أنّ الاستعراضات الخطابية تولاها قادة الحرس الثوري، وفي بيان صادر عن الأخير قال “إذا ارتكب الأعداء أيّ خطأ فإنّ صواريخنا ستباغتهم بسرعة البرق”. وجاء ذلك، غداة إعلان وزارة الخزانة الأميركية فرض عقوبات جديدة على 25 شخصية وشركة إيرانية لعلاقتهم حسب الاتهام الأميركي بملف الصناعات البالستية في إيران، وضمت اللائحة أسماء شركات وأفراد لبنانيين.
خطوات الانقلاب على سياسة الرئيس السابق باراك أوباما تجاه إيران، هي الرسالة التي يحرص على إظهارها ترامب. الانقلاب هو أبرز عنوان في السياسة الخارجية الأميركية الذي كشف خلال أسبوعين حجماً من العداء للسياسة الإيرانية غير مسبوق، لا سيما أنّ الإدارة الأميركية والقيادة الإيرانية، سواء في عهد جورج بوش الابن أو في ولايتي أوباما، أظهرتا ميلاً إلى التعاون في العراق، فيما كان أوباما يفتخر بإنجاز الاتفاق النووي مع إيران واعتبره من أبرز إنجازات عهده.
القيادات الإيرانية في المقابل وجهت رسائل من خلال معظم المسؤولين الكبار فيها بأنّ ما تقوم به هو إجراءات عسكرية دفاعية، فيما حذر مستشار خامنئي علي ولايتي الرئيس الأميركي قائلاً “يتوجب على ترامب ألّا يجعل من نفسه ألعوبة مسلية”. باستثناء المرشد علي خامنئي الذي بقي صامتاً حتى الآن، من المرجح أن تتوج المواقف الإيرانية من التحدي الأميركي في الذكرى الـ38 لانتصار الثورة الإسلامية الإيرانية بعد أيام.
هذا المشهد المتجه إلى التصعيد بين واشنطن وطهران، لم يقتصر على تجربة الصواريخ البالستية، بل كانت هذه التجربة إيذانا بفتح ملف العلاقة بين البلدين، العلاقة التي فيها من التعاون وفيها من التنافس والتنافر على صعيد الخليج وفي الشرق الأوسط عموماً، لتنتقل مع ترامب إلى مرحلة جديدة من التوجس المتبادل المفتوح على وجهة الصدام، لذا كانت الإدارة الأميركية أوّل من حذر إيران بعد ضرب الفرقاطة السعودية من قبل الحوثيين في اليمن قبل أيام، واعتبرها البنتاغون عملية إرهابية موجهة ضد واشنطن، لذا عمدت الأخيرة إلى إرسال حاملة الطائرات “كول” إلى البحر الأحمر في رسالة لا تخلو من تأكيد الإدارة الجديدة جديتها في التعامل بحزم مع السياسة الإيرانية تجاه الممرات البحرية.
هذا التصعيد يجب ألا يخفي حقيقة في تاريخ العلاقة بين الدولتين خلال العقود الأربعة الماضية، أنّ واشنطن وطهران وفي أشد حالات العداء بينهما، لم يحصل أن وقعت أيّ مواجهة مباشرة بينهما، المواجهات كانت تتم بالواسطة، فإيران التي سمّت أميركا الشيطان الأكبر واعتبرتها العدو الأول لها، اعتمدت في الثمانينات وسائل التفجيرات عبر استهدافها المصالح الأميركية في أكثر من دولة في العالم، وتمّ ذلك عبر أذرع إيرانية كما جرى في تفجير السفارة الأميركية في لبنان عام 1983، وبعدها بأشهر تفجير مقر المارينز قرب مطار بيروت.
وتلت هذه المرحلةَ عملياتُ خطف الرهائن الغربيين في لبنان من قبل منظمة أطلقت على نفسها حينها منظمة الجهاد الإسلامي، وكانت هذه المنظمة أحد أذرع الحرس الثوري الإيراني الذي كان له أكثر من ثلاثة آلاف عنصر في منطقة البقاع اللبناني، استمر وجودهم من العام 1982 حتى مطلع عقد التسعينات من القرن العشرين.
هذه العمليات العسكرية والتفجيرات التي استهدفت أميركيين وغيرهم من الغربيين في لبنان وغيره من دول أوروبية وأفريقية، تمّ في خضمّها إنجاز ما عرف بصفقة “إيران- كونترا” والتي تضمنت تسليم إيران أسلحة أميركية بوساطة إسرائيلية خلال الحرب العراقية الإيرانية في العام 1986.
يبقى أنّ إيران التي استطاعت إلى حدّ بعيد استثمار الدخول الأميركي إلى العراق عام 2003، ونجحت في تعزيز نفوذها في هذا البلد، هي نفسها من أوعزت للحكومة العراقية بطلب عودة الجيش الأميركي إلى العراق بعدما نجح تنظيم داعش في السيطرة على مساحات واسعة من أرض الرافدين قبل ثلاث سنوات، وبالتالي فإنّ الأنظار تتجه اليوم في ظلّ استبعاد المواجهة العسكرية المباشرة إلى الرسائل التي ستشهدها مساحات النفوذ المشتركة بين الدولتين سواء في الخليج العربي أو في العراق واليمن، من دون أن ننسى سوريا ولبنان.
الإدارة الأميركية، ولا سيما وزير الدفاع جيمس ماتيس، ألمحت إلى عزم أميركي على إخراج إيران وحزب الله من سوريا، فيما بات يتردد في أوساط إدارة ترامب صوت يعلو عن ضرورة سحب ميليشيات حزب الله من سوريا وفرض المزيد من العقوبات عليه.
وفي هذا السياق لم يكن بريئاً وقوع حادث مواجهة بين قوات الأمم المتحدة المنتشرة في جنوب لبنان مع مواطنين في بلدة مجدل زون في قضاء صور، وفي بيان قيادة قوة “اليونيفيل” إثر الحادثة ورد أنّ مجموعتين من الرجال “العدائيين” حاولتا الاعتداء على دوريتين تابعتين لـ“اليونيفيل” في محيط منطقة المنصوري – مجدل زون (القطاع الغربي) في لبنان، مشيرة إلى أنّ هؤلاء الرجال حاولوا إلحاق الأذى بجنود حفظ السلام.
والذي يثير أسئلة حول أبعاد هذه الحادثة أنّه لم يحصل أن وقعت حوادث شبيهة منذ أكثر من ست سنوات، ولا سيما منذ انخرط حزب الله في الحرب السورية، حيث شهدت مناطق جنوب لبنان المحاذية لإسرائيل استقراراً غير معهود منذ عقود، فهل نحن اليوم أمام رسالة إيرانية تنطلق من مناطق نفوذ حزب الله باستعدادها لتحريك ورقة الجنوب، إمّا في سياق زعزعة وجود القوة الدولية، وإما في إطار التذكير بقدرة حزب الله على إطلاق صواريخ إستراتيجية على إسرائيل، استجابة لما هدد به مسؤولون إيرانيون من أنّ أيّ هجوم عسكري تتعرض له إيران من واشنطن، سيترتب عليه حينها إطلاق الصواريخ الإيرانية باتجاه إسرائيل.
كما في لبنان، فإن العراق هو مساحة مشتركة وإضافية تتيح لإيران توجيه رسائل تجاه واشنطن، حيث تسعى طهران في مرحلة عضّ الأصابع، إلى تنبيه واشنطن بقدرتها على فتح أكثر من جبهة في وجه السياسة الأميركية، وإظهار الكلفة العالية لأيّ مواجهة.
في المقابل يضع ترامب واشنطن على سكة إعادة الهيبة، وإثبات أنّ الولايات المتحدة هي من يقرر في المنطقة، وهذا توجه يكتسب قوته أيضا من ظاهرة العداء غير المسبوق لإيران مع معظم الحكومات العربية، ويتزامن مع إدراك أميركي أنّ طهران استنزفت اقتصادياً في حروب المنطقة، والأهم أنّ ترامب يبدو رغم سياسته في بناء الجدران متمسكا بالقيام بخطوة تبدو ملحة في قراراته التنفيذية لإعادة هيبة أميركا التي أساء لها أوباما.