لم يعد هناك أدنى شك في أن «نموذج» عهد الرئيس ميشال عون بات منطلقاً رئيسياً للتداول في مجريات الأحداث في المنطقة، ومصير بعض الملفات الكبرى فيها. فهو «عهد» أول من نوعه بعد أزمات الربيع العربي وانفراط عقد السلطات وانقسامها بين محاور إقليمية ودولية من حيث الشكل الذي يؤسس صورة قادرة على الحكم التوافقي ضمن التقسيم «محور ومحور مقابل» و«حلفاء وحلفاء متقابلون» في بلد تحتل فيه كل من المملكة العربية السعودية وإيران الحيّز الأكبر من التأثير في حركتها السياسية. وعلى هذا الأساس يصعب فصل تركيبة هذا العهد بين التوافق على انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وبين تسمية سعد الحريري رئيساً لمجلس الوزراء عن اعتبارها الخطوة التي تجسّد ما هو أبعد لتصل عند حدّ العقدة «السعودية – الإيرانية» التي لا تزال عالقة في أكثر من مكان حساس أهمها في اليمن يليه البحرين فالعراق وسورية.

يؤكد وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف في مؤتمر دافوس أن الحل اللبناني هو ترجمة لحوار «سعودي – إيراني» ناجح ونموذج يمكن تطبيقه على الملفات المتبقية العالقة التي تهم البلدين فيدعو السعودية للحوار بطريقته التي تريد بلاده أن تؤسس عليها أرضية جدية. تقدم السعودية في المقابل نموذج تصريحات متطرّفة وحادة حيال السلطات الإيرانية. وهو الأمر الذي قد يكون مفهوماً بالنسبة إليها. فالحرب في اليمن لا تزال تعيش فصولاً قاسية لا يثبت فيها حلفاء إيران فيها بعد عامين تقريباً على أنهم بوارد التراجع، بل على العكس فإن آخر ما كشفت عنه القوة العسكرية الحوثية قدرة على استهداف السفن البحرية السعودية وإطلاق صواريخ من داخل الارضي اليمنية نحو العاصمة السعودية الرياض.

النموذج اللبناني هدف علني «تجاهر» به إيران لتطبيقه على باقي الملفات، لكنه هدف ضمني «تخفيه» المملكة العربية السعودية، لكنها تقوم بكل ما يؤشر على إحاطتها بتفاصيله واهتمامها به، بمكان «ما» قادر على أن لا يكشف حاجتها لحماية ما تمّ التوصل إليه في الوقت الذي تراقب فيه نجاح التجربة ونضوج الخيارات المتبقية في المنطقة. لا تبدو المملكة انها راغبة بتعريض الإنجاز اللبناني للخطر، وهي بادرت لدعوة العماد ميشال عون لزيارة السعودية فور انتخابه رئيساً في وقت لم تتحسّس إيران من الزيارة الأولى لعون للرياض ولم تدخل على خط عرقلة المبادرة السعودية «الإصلاحية» نحو لبنان، بعدما كان قد قاطعه دول الخليج كلها نتيجة القرار السعودي بمنع السفر اليه.

اأرسلت المملكة العربية السعودية عشية جلسة انتخاب الرئيس وفداً بقيادة وزير شؤون الخليج العربي في وزارة الخارجية السعودية تامر السبهان، وحكي حينها عن مساعيه في لملمة أصوات تيار المستقبل المتشظية وحثهم على انتخاب العماد عون رئيساً كضمانة على موافقة المملكة للتصويت. لم يعُد السبهان الى لبنان حتى نهار أمس، حيث اصبح موفد السعودية صاحب المهمات الذي تعرّف عليه اللبنانيون في عهد «عون». وبالحدّ الأدنى ترسل زياراته إشارات عودة اهتمام السعودية بلبنان.

لكن… ماذا وراء زيارة السبهان المفاجئة اليوم؟

زيارة رسمية للبنان يلتقي خلالها الزائر كبار المسؤولين اللبنانيين في وقت يتصدّر قانون الانتخاب الحركة السياسية في البلاد، أما وفق مصادر متابعة للزيارة فإنه وكاحتمال اول, ليس في الأفق حل سريع لقانون الانتخاب يستدعي دفعاً «تشجيعياً» تقطف ثمار إنجازه المملكة العربية السعودية بالزيارة ، أي كما كان الحال عشية انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، لكن من دون أن يعني هذا أن السعودية ليست مهتمة بالدفع باتجاه الاتفاق على قانون يحفظ «المعادلة» الأخيرة التي أعادت حضورها من بوابة مجلس الوزراء الى لبنان.

الاحتمال الثاني، حسب المصادر نفسها، تقول إنه «لا مصلحة للسعودية بتصعيد يكسر الوضع اللبناني للمجيء بهدف التحريض على التصعيد السياسي لفريقها محلياً بوجه خصومهم أي أن زيارة السبهان الذي نجح في تطويع «المستقبليين» باتجاه انتخاب عون ونجح في رسم صورة الموفد الحامل لـ»التطمينات» في وقت سابق ليست زيارة تصعيدية محلية». وأخيراً تختم المصادر: «يبقى احتمال واحد، وهو أن الزيارة هي تتمة اتصالات خاصة لما بعد زيارة الرئيس ميشال عون للمملكة العربية السعودية الشهر الماضي»، وما يوفره الجوّ المريح بين البلدين من استخدام لبنان «منصة» مستقبلاً لإطلاق مواقف سعودية حادة من الأوضاع الإقليمية ضد إيران أو التأسيس لزيارات «متكررة» مشابهة لتلك التي أجرتها وفود إيرانية منذ انتخاب عون رئيساً أبرزها علاء الدين بروجردي، رئيس لجنة الأمن القومي في مجلس الشورى الإيراني، ولاحقاً المساعد الخاص لرئيس مجلس الشورى الاسلامي في الشؤون الدولية حسين امير عبداللهيان، وقبلهما تهنئة من وزير الخارجية محمد جواد ظريف، حيث كانت أول زيارة لمسؤول إقليمي لبعبدا بعد انتخاب الرئيس، فلا تترك الساحة خالية لإيران.

وفي الأحوال كلّها تبدو الرغبة السعودية في متابعة الملف اللبناني واضحة لجهة الحرص على التواجد في الحركة السياسية المحلية، من دون أن تترك البلاد مفتوحة أمام زيارات أحادية اللون يصبح فيها لبنان متخندقاً ضمن محور من دون الآخر في وقت تدرك المملكة أن بيروت هي آخر منافذها التي تؤكد حضورها السياسي في المنطقة العربية بمعزل عن دول مجلس التعاون الخليجي، خصوصاً بعد خفوت نفوذها في الميدان السوري لصالح تركيا سياسياً وعسكرياً واستحالة إيقافها للحرب الدائرة في اليمن، بعدما كان قرار الحرب والسلم بيدها «عنوة».

 

روزانا رمّال : البناء