مرت خمس سنوات على رحيل نسيب لحود الذي خطّ بمسيرته معالم شخصية تميّزت بحضور نوعي وازن ومستقل في الشأن العام. 

 نستعيد، الرجل الذي خسر لبنان ديناميته في المشهد السياسي، من خلال كلمات الدكتور نبيل خليفة الآتية:

لم تبق ميزة أخلاقية أو سياسية أو اجتماعية أو فكرية الا واكتشفها المتحدثون عن شخصية نسيب لحود يوم وفاته. بعضهم كان يعرفها فيه وبعضهم كان يحبسها عنه، وبعضهم رسمها الغياب على وجهه. على ان هذه الميزات التي ليست سوى أجزاء من مقلع القيم والثقافة والبطولة والرجولة التي طبعت حياة هذا الرجل، لا تجد تعبيرها الحقيقي، إلا في كونه "قيادة تاريخية": هذا هو مكانه، وتلك هي مكانته الأهم، وهذه هي خصوصيته في سياق الحياة السياسية في لبنان!
وإذا كانت ظروف الموت المأساوية تستدعي تفجّر المشاعر حزناً على رجل استثنائي فقدناه وكنّا في حاجة ماسّة اليه، فهي تستدعي قبل ذلك، وفوق ذلك، التأمّل في مسيرته الشخصية/ السياسية التي جعلت منه، دون الآخرين، "قيادة تاريخية".
صحيح أن نسيب لحود لم يعلن ثورة ولم يقد مقاومة ببعدها الوطني اللبناني، وصحيح أيضاً انه لم يرفع صوته في وجه أحد ولم يهدد أحداً بالعنف، وصحيح أنه لم يكن قوة الترجيح والفصل في المعادلة اللبنانية، وصحيح أنه لم يكن رئيس الحزب الأكبر والأفعل على الساحة اللبنانية، ومع ذلك، بل بسبب كل ذلك، فقد ثبت واثبت أنه القيادة التاريخية الأبرز في لبنان، لأنه نقل مفهوم السلطة في لبنان من كونها ممارسة آنية الى كونها فعلاً تاريخياً، أي قيادة سياسية تاريخية.
هذه الفرادة السياسو/ تاريخية لم تتحقق فيه ولديه، إلا لوجود ثلاثة عناصر أساسية بارزة ومتكاملة في تجربة نسيب لحود:
أولها – خامته الشخصية كرجل ذي كاريسما شخصية: فهو رجل أخلاق ورجل ثقافة، ورجل موقف ورجل رؤية: "يرى صحيحاً.. ويرى بعيداً!".
ثانيها – وجود جماعة تؤمن بقناعاته وتثق به وترتاح الى قيادته تبدأ بحركة التجدد الديموقراطي وتتسع لتشمل الملتزمين بالأخلاقية السياسية والمؤمنين بالثقافة الديموقراطية فلسفة وممارسة. ذلك أن رؤساء الأحزاب عندنا والمسؤولين فيها يتحدثون كثيراً عن الديموقراطية، ولكنهم ويا للأسف يمارسون عكسها في مؤسساتهم!
ثالثها – أهمية وسمو الأهداف المستقبلية التي يسعى الى تحقيقها بالتعاون والتضامن مع تيار الحركة السياسية التي تؤيده وتلتزم وإياه بالمانيفست السياسية الذي قامت على أساسه الحركة. ومن دون الدخول في شروحات عقائدية، فإن كلمتي التجدد الديموقراطي تختصران هدفين كبيرين: التجدد يعني الحداثة والديموقراطية يعني مجتمع الحرية بأبهى تجلياته المعاصرة. وفي ضوء ذلك يمكن اختصار المميزات الاساسية للقيادة التاريخية لدى نسيب لحود بخمس:
1 – الخروج من التخصيص الى التعميم، من البعد الوطني الضيّق الى البعد الانساني الرحب، من الفئوية الى المجتمعية، من كيانية المجتمع الى نوعية المجتمع.
2 – التوكيد على المشاركة في تحديد وإبراز الاهداف التي تتوخى حركته السياسية تحقيقها بكونها خلاصة لتطلعات القائد والجماعة في آن. هذه المشاركة تؤكد التفاعل بين القائد والشعب: فهو في قلب هذه التطلعات من جانب، ولكنه يسمو عليها من جانب آخر، إذ تبقى له ميزة الرؤية البعيدة والصحيحة: رؤية القيادة المرتبطة بنوعية هذه القيادة وبنظرتها الى التاريخ.
3 – التحلي بالوعي التاريخي، ويكون ذلك باعتماد ثلاث مقاربات متلازمة ومتكاملة ومتوازنة: استيحاء الماضي، وفهم الحاضر، وتصوّر المستقبل.
4 – اعطاء الاولوية لمصلحة الجماعة حتى وان تعارضت مع مصلحة القائد، لان العكس يعني استخدام القائد للشعب لبلوغ أغراضه الشخصية، في حين ان شرعية قيادته ترتبط بالخط التاريخي لمصالح هذا الشعب. وفي هذا أكثر من درس لدى "القيادات" المارونية!
5 – التزامه الواقعية التاريخية، اي صفات رجل الدولة وليس القائد الملهم. فهو يستخدم عقله وفكره لصياغة خياراته وتصوراته وأساليبه في التفكير والعمل. انه صاحب نظرة انسانية وليس إلهية الى التاريخ، ولانه كذلك، فهو موضوع امام خياراته قد يخطئ او يصيب فيها. وهذا ما يجعله يفكّر أكثر ويتأمّل أكثر ويتثقف أكثر وأكثر!


في الخلاصة، كل المميزات التي تمتع بها نسيب لحود سامية ونبيلة، ولكن السمة الأساسية التي تحدد دوره ومنزلته وفاعليته كإنسان وكعامل في الشأن العام هي في كونه "قيادة تاريخية".
.. لقد كان نسيب لحود فرصة وحظاً وأملاً لشعبنا ووطننا!
ولكن غيابه المبكر على يد القدر، يؤكد ما كان يقوله ويردده فيليب حبيب عن الموارنة، من أنهم "جماعة الفرص الضائعة" على يدهم.. وهذه المرة على يد القدر أيضاً!