لم يكن لقاء الأستانة، الذي تجمهر فيه معظم الضالعين في الأزمة السورية، لقاءً لبحث الأزمة ومناقشتها لإيجاد حلٍّ لها. فال 48 ساعة من اللقاء لم تتسع لجمع وفد المعارضة بوفد النظام؛ فكيف بحلّ أزمة قد تتطلب أياماً وأشهراً من البحث المعمق والجدي بين الفريقين؟ إنه اللقاء الذي أبلغ فيه بوتين، وكيل الحلّ، خريطة الطريق لنظام الحكم الجديد في سوريا. فماذا بقي للأسد في حكم سوريا؟
ماذا بقي للأسد في حكم سوريا الجديدة، عندما يضع لها الرئيس بوتين دستورها الجديد؟ ماذا يبقى للأسد، عندما يتحوّل نظام الحكم في سوريا من نظام رئاسي ديكتاتوري، إلى نظام برلماني؟ من نظام لا حدود فيه لسلطات الرئيس، بدءاً بحقه في حلِّ مجلس النواب؛ إلى نظام معاكس تماماً يحق فيه لمجلس النواب إقالة الرئيس؟ من نظام يحق فبه للرئيس تعيين نائب له، إلى آخر لا مكان فيه لهذا المنصب، غير الموجود إلاّ في النظام الرئاسي وفي الأنظمة الديكتاتورية. في النظام الرئاسي (الأميركي مثلاّ)، يستمر نائب الرئيس في حكم البلاد لتفادي الوقوع في الفراغ الدستوري، إذا ما أصيب الرئيس بعجز يمنعه من ممارسة مسؤولياته، لأن نائب الرئيس، هو كالرئيس، منتخب أيضاً من الشعب؛ بينما نائب الرئيس في نظام البعث في سوريا، هو معيّنٌ من قبل الرئيس كوريث شرعي للنظام؛ بمعنى آخر هي ملكية مقنعة للعائلة السورية المالكة.
ماذا بقي للأسد في سوريا، عندما تُنتزع عنها صفة العروبة فيها؟ تلك العبارة التي كان النظام يستغلها لتشديد القبضة على المواطنين. إذ بدل “الجمهورية العربية السورية” التي تطمس بمعناها الدستوري حقوق الأقليات غير العربية، يصبح إسمها في الدستور الجديد “الجمهورية السورية “؟ وهل تضعف سوريا إذا اعترفت بحقوق الأقليات فيها، كالأقلية الكردية، أم أنها تقوى؟ وهل الإعتراف بالهوية الثقافية لهذه الأقلية، ضمن الكيان السوري، يضعف سوريا أم يقويها؟ ألم يكن طمس هوية الأكراد الثقافية داخل سوريا، أو غيرها من دول الجوار في العراق وتركيا وإيران، من أهم أسباب الضعف البنيوي والإجتماعي وتماسك الدولة لهذه البلدان الأربع!! ليأتي الدستور الجديد المقترح لسوريا، والذي أبلغه بوتين للأسد منصفاً وعادلاً لحقوق الأقلية الكردية في سوريا. ولكن ماذا عن الأقلية العرقية الثانية في سوريا، الأقلية السريانية، الناطقة بالسريانية، والتي تتجذر ثقافتها في التاريخ وتتعمق لتنهل من حمورابي؟ وبالتالي ألا تشكل هذه الأقلية، المتجذرة في التاريخ، مصدر غنى كبير لسوريا، تنفرد عالمياً في احتوائه؟
ماذا بقي للأسد في سوريا، عندما ينص دستورها الجديد على إمكانية تعديل حدودها؟ هل يقصد بذلك اكتساب أراضٍ على حساب دول الجوار، وهذا أمر شبه مستحيل، أم أنه لسلخ قسم من أراضيها باتجاه استقلال كامل لإحدى مكوناتها، أم أنه للإقرار بالتخلي عن الجولان؟ وفي كلا الحالتين، يصعب على الشعب السوري ابتلاع أي منهما كثمن لممارسات حكم آل الأسد.
ما هي ردة فعل الأسد وجهابذة النظام على إعلان وزير خارجية روسيا لافروف، قبل أن يجف حبر الأستانة، إن التدخل العسكري الروسي هو الذي منع دمشق من السقوط بيد الإرهابيين؛ وعندما يضيف، منذ أسبوع، أحد المسؤولين الإيرانيين بقوله “لولا التدخل الإيراني، لكان نظام الأسد في خبر كان منذ مدة طويلة”؟ كيف يبرّر حاكم القلب النابض للعروبة (دمشق)، والطامح بروحه البعثية إلى ما بعد موريتانيا، عجزه عن السيطرة حتى على عاصمة الأمويين؟ كيف يبرر استمراره في الحكم بينما الجيوش الغريبة والميليشيات التابعة لها، تجوب الأرض السورية وتطرّزها ذهاباً وإياباً وفي كل الإتجاهات، لنهب الأفراد والممتلكات والدولة؟ ماذا ستقول الأجيال المقبلة في سوريا، عندما تكتشف الإتفاقات التي عقدها النظام مع إيران لتسديد نفقات المساعدات العسكرية التي كانت تقتل الشعب السوري، من الثروات الدفينة في سوريا، ومع روسيا لتحويل شاطئها البحري إلى محمية روسية؟!
يقول أحد فلاسفة الدساتير في العالم “هناك نوعان من الأنظمة: الأول يحكم بواسطة الفاسدين، طبعاً الحاكم الفاسد يكون هو الرمز الأهم المغمور للفساد، بعد أن يكون قد شجع على الفساد، فيحكم السيطرة على السلطة ويعزز ديكتاتوريته. أما النوع الثاني، فهو يحكم بواسطة الصالحين، طبعاً يكون الحاكم صالحاً)، فتضعف سيطرته إلاّ من باب الصلاح، وتتعزّز دولة الحقوق والعدالة والمساواة. وقد علمنا نظام الأسد، وعلى الأقل من التجربة اللبنانية لأننا لا نرغب في التدخل بحكمه في سوريا، أنه كان يشجع المفسدين على الفساد في لبنان، ليحكم سيطرته على القرار اللبناني؛ بينما المنادون بالحرية في لبنان، عاشوا أحراراً لكن في دهاليز سجونه في بيروت.
الدستور الجديد في سوريا ينص على إقامة دولة القانون والقضاء المستقل، بعيداً عن نظام المخابرات العسكرية، والقومية، والجوية، والحدودية… الدستور الجديد ينص على إبعاد الجيش عن السياسة، ليمارس دوره الطبيعي في الدفاع عن الوطن، وحماية المواطنين وليس قتلهم؛ والتخلي عن لعب دور البوليس لصالح النظام.
وأخيراً ماذا بقي للأسد في سوريا، عندما يعلن الرئيس الأميركي أنه بصدد إقامة مناطق آمنة في سوريا؟ آمنة ممن؟ طبعاً من اعتداءات النظام. وذلك يعني أن كل ما يخضع للرئيس الأسد، وهو مستند على حلفاء الأسد وميليشياتهم على الأرض، هو ليس آمناً برأي الرئيس الأميركي. فهل يمكن للأسد التعاون مع “قيصر” واشنطن، كما أعلن سابقاً، لمحاربة الإرهاب، وكيف؟ وإذا ما أقيمت مناطق آمنة في سوريا، وأغلب الظن أنها ستكون على الحدود التركية والحدود الأردنية وعلى الشاطئ السوري، فماذا يفعل الأسد عندما تُسلخ هذه المناطق عن دولته، وتدار بأسلوب ديموقراطي حضاري مزدهر، لتكون نموذجاً لبقية سوريا المهدمة؟ هل يمكنه إعادة تضليل الشعب السوري بالقول: إنه الإستعمار الذي سلب لواء الإسكندرون وفلسطين والجولان؛ ها هو اليوم يستكمل سلب ما تبقى من سوريا؟ ومع أننا نعادي وندين من سلبوا المثلث الأول، لكن الشعب السوري شاهد برمته على أن الشعب السوري في الأراضي السليبة يعيش في دولة قانون؛ بينما هو في وطنه يعيش دولة القمع والسجون؟
ماذا بقي للأسد في سوريا غير مآثر القتل والقمع والخراب والتهجير وتشريد الشعب السوري في أصقاع الأرض؟ لم يكتف الأسد بتشريد هؤلاء البؤساء، بل أصرّ على تلوينهم بإرهابيين من صناعته، ليتسبب بردة فعل، كالتي نشهدها اليوم لدى الرئيس الأميركي الجديد. لقد خلّف الأسد وراءه في سوريا، تاريخاً حافلاً بالمآسي والويلات. من دمشق قلب العروبة النابض، إلى دمشق عاصمة الدمار في قصر المهاجرين، خائف ومرتعش من حفنة إرهابيين، رعاهم طويلاً لاستخدامهم كقتلة غب الطلب فوق ساحات الشرق الأوسط وحول العالم. وها هو السحر ينقلب على الساحر.
لم يبق للأسد دور، حتى للقتل، في سوريا. فالمسألة السورية أصبحت في قبضة بوتين، الذي يمتلك قرار الحرب والسلم لوحده فوق الساحة الدمشقية. طبعاً، تركيا تنسق مع “القيصر”؛ بينما إيران ومعها النظام “يجرجران” في ركب المفاوضات عاجزين؛ بانتظار المقايضة الكبرى التي يقودها بوتين مع واشنطن. فماذا بقي للأسد في سوريا؟