لا تخوض القيادات اللبنانية فقط سباقا مع الوقت بما خص القانون الانتخابي مع اقتراب انتهاء المهل القانونية منتصف الشهر الجاري، وانما ثمة سباق من نوع آخر، لا يحظى باهتمام كاف، تنتهي مهله مع انتهاء فصل الشتاء و«ذوبان الثلج» في الجرود الشرقية المحاذية للحدود السورية، حيث سيعود هذا الملف الى الواجهة من جديد مع قرار حزب الله والدولة السورية «تنظيف» منطقة القلمون وجرودها مما تبقى من «بؤر» ارهابية ازدادت عزلتها بعد سقوط قرى وادي بردى قبل ايام قليلة، هذا الاستحقاق يعيد فتح باب التساؤلات على مصراعيه حول جهوزية الدولة اللبنانية بكافة اجهزتها للتعامل مع هذا الاستحقاق الداهم بفعل التطورات الميدانية المتسارعة على الحدود...

وبحسب اوساط مطلعة على هذا الملف، فان هذه القضية وضعت على «طاولة» البحث الجدي خلال الايام القليلة الماضية في اطار انضاج عملية تنسيق لبنانية - سورية لمواجهة هذا التحدي المشترك لمنع الارتدادات السلبية على الجانب اللبناني الذي سيكون معنيا بمواكبة هذه التطورات سياسيا وميدانيا... فتأمين دمشق ومحيطها يعد اولوية للدولة السورية، وحزب الله الذي يريد ايضا تأمين الحدود اللبنانية - السورية بشكل تام، واذا كان ملف بلدتي مضايا والزبداني مرتبطاً عضوياً بمصير بلدتي كفريا والفوعا المحاصرتين في ريف ادلب، فان تحرير ما تبقى من جرود محتلة في القلمون لن يتأخر ويفترض بدء العمل عليه مبدئيا مع بداية فصل الربيع، وهذا يضع الدولة اللبنانية في سباق مع الزمن لحسم خياراتها...

ووفقا للمعلومات، فان خطط استكمال عملية تحرير جرود القلمون «طبخت» على «نار هادئة» منذ مدة، وباتت جاهزة، وتحديد «ساعة الصفر» كان يرتبط بتقدير حزب الله والقيادة السورية للحظة السياسية والعسكرية المؤاتية، وقد جاءت الانهيارات المتسارعة في محيط العاصمة السورية دمشق، وبعد سقوط حلب، لتعيد هذه الجبهة الى مراتب متقدمة، فنجاح الضغط العسكري في قرى وادي بردى السبع، وضع مسلحي «النصرة» في الجرود امام خيارين، اما خوض معركة خاسرة عسكريا، اوالخروج عبر مصالحات باتجاه الشمال السوري... فيما تبدو الامور اكثر تعقيدا مع مقاتلي «داعش» التي لم تفتح معهم اي قناة تفاوضية خصوصا ان المقاتلين هناك ما زالوا يراهنون على التقدم الذي احدثه التنظيم في تدمر، ولكن قرار الحسم في البادية الشامية واعادة تحرير المدينة التاريخية قريبا، سيعيد تضييق الخناق على ما تبقى من مسلحين في الجرود، ولهذا ستكون المعركة اكثر سهولة بعد طرد التنظيم من تدمر...

وما يشجع على تقديم موعد الحسم في الجرود، وجود «تغطية» دولية لضرب تنظيمي «النصرة» و«داعش» وهما خارج اطار اي تفاهمات سياسية يجري العمل عليها، ومصنفان كمنظمتين ارهابيتين، وجاء اصرار حزب الله والجيش السوري على حسم معركة قرى بردى على الرغم من التحفظ الروسي، ليؤكد ان قاعدة اولويات حزب الله ودمشق في منطقة حيوية للغاية، غير قابل للمساومة، وما لم تتمكن موسكو من فرضه، لن تكون الدولة اللبنانية قادرة على منعه، فهذه المنطقة الاستراتيجية حيويّة لحزب الله وهي تمتد جغرافيا جنوب دمشق ومحيطها وصولاً إلى ريفها في القلمون نحو حمص... 

ولا تفصح تلك الاوساط عن الأولويات التي ستتخذها المعارك المقبلة، لكن ما هو ثابت الان ان سيطرة الجيش السوري وحزب الله على معظم المناطق المحيطة بدمشق وريفها، تسرع انطلاق العملية، خصوصا ان التوجّه الأساسي هو للسيطرة على دمشق الكبرى، ربط القلمون بمحيط العاصمة عبر سهل رنكوس اولوية، كما تبقى مدينة دوما في منطقة الغوطة الشرقية اولوية ايضاً، لكنها مرتبطة بالتفاهمات السياسية الكبرى كونها تحت سيطرة جيش الاسلام المشارك في مؤتمر استانة، وتبقى لمنطقة ريف دمشق الشرقي وكذلك المنطقة الجنوبية الغربية لدمشق، وأهمها بيت جن والقرى المحيطة بها، اهمية قصوى، لأن هذه السيطرة اذا ما تمت ستؤمن خط الحماية لدمشق وكذلك مناطق في الجنوب اللبناني، لكن معركة «بيت جن» خاضعة لتوازنات اقليمية أوسع، نظراً لوجود العامل الإسرائيلي على الخط، ومن هنا فان تامين الحماية للمناطق المتاخمة للحدود اللبنانية الشرقية يبقى اقل الخيارات صعوبة وتعقيدا...

أما المطلوب لبنانيا، فتشير تلك الاوساط الى ان مستوى التنسيق العسكري الميداني، غير المباشر، بين الجيشين السوري واللبناني، كاف في مرحلة «الستاتيكو» الراهنة، ويقوم حزب الله بدور «المنسق» الميداني عندما تدعو الحاجة الى ذلك، لكن اذا ما انطلقت عملية الحسم العسكري، فان رفع مستوى التنسيق يصبح امرا اكثر من ضروري على امتداد جبهة متداخلة تحتاج الى متابعة دقيقة وعمليات منسقة لوضع المجموعات المسلحة بين «فكي كماشة»... وهذا الامر يحتاج الى رفع مستوى التواصل السياسي والعسكري، ويحتاج وزير الدفاع اللبناني يعقوب الصراف الى تغطية حكومية لا تزال غائبة لتوحيد الجهود في سبيل ربح معركة مشتركة ضد الارهاب، وهي مواجهة تخوضها قيادة الجيش الحالية دون هوادة او تقصير، ولن تكون مسألة تغيير قيادة الجيش او بقائها مسألة مؤثرة في هذه المواجهة لان العقيدة القتالية للمؤسسة العسكرية واضحة وثابتة في هذا الشان، والتعقيدات الاساسية تبقى في القرار السياسي المطالب بتحرير القيادة العسكرية من بعض «القيود» التي تحول دون رفع مستوى التنسيق مع الجيش السوري...

وبرأي تلك الاوساط، فان الجهد مطلوب هنا من الرئاسة الاولى المعنية بوضع هذا الملف على «الطاولة»، لان رئيس الحكومة سعد الحريري يبدو محرجا امام هذا الاستحقاق الجدي وهو معني بالفصل بين مهامه كرئيس للحكومة، مسؤول عن تأمين الحدود اللبنانية والداخل من خطر الارهاب، وبين مصالحه الشعبية والانتخابية التي ستكون موضع اختبار جديد في ظل انعدام القدرة على الفصل بين عدائه المعلن للدولة السورية ورهانه على «ثورة» لم تعد موجودة... سيكون الحريري امام امر واقع عنوانه استعادة عرسال وجرودها الى «حضن الدولة»، شعار سينفذه حزب الله والجيش السوري عمليا، بالتعاون مع الجيش اللبناني، ولن يبقى امام رئيس تيار المستقبل سوى خيارين اما تأمين تغطية «صامتة» لهذه المعركة، او المجاهرة في رفضها وتكبد خسارة معنوية غير مجدية...مع العلم ان التسريبات من داخل «التيار الازرق» تشير الى ان «المستقبل» غير مستعد لتأمين اي تغطية للحسم قبل اجراء الاستحقاق الانتخابي المقبل...

وبين الحسابات السياسية اللبنانية، واولويات معركة كبرى واستراتيجية في سوريا، لن يتوقف الحسم عند مصالح محلية ضيقة، ارتفاع المخاطر الارهابية في الداخل اللبناني، مع ازدياد عمل «الذئاب» المنفردة، والمجموعات الارهابية «العنقودية»، سيسرع من تطبيق الاستراتيجية المتكاملة الموضوعة على «طاولة» قيادة المقاومة والقيادة العسكرية السورية، وخلاصتها واضحة بجعل العام 2017 عام القضاء على الجيوب الارهابية في محيط دمشق وعلى الحدود اللبنانية، وتبقى مسؤولية بعض المسؤولين اللبنانيين كبيرة في القدرة على المواكبة عبر انتهاج سياسة واقعية باتت ضرورية في التعامل مع الدولة السورية...


ابراهيم ناصرالدين