نسي أرباب المنزل اقفال الباب قبل خروجهم، فهربت "أدجووا" وضاعت في الشارع وارشدتها سيدة لبنانية الى "جمعية انسان" ودفعت لها بدل سيارة الأجرة. كان ذلك الفصل الأخير من كابوس عاشته العاملة الأجنبية من التبعية الغانية، بعد نصف سنة من تناول صحن أرز يومياً على الغداء. استقبلتها مسؤولة الأبحاث والمناصرة في الجمعية رلى حاماتي، فوجدتها نحيلة وشاحبة وجائعة وخائفة، بالكاد تقوى على نطق حروف اسمها. طلبها الوحيد، عدم العودة الى غانا. لقد استدانت المال كي تسافر للعمل في لبنان. لكن غربتها لم تكن على قدر طموحاتها. نامت سبعة أشهر على فرشة في المطبخ. الثلاجة مقفلة. "المدام" تحصي حبّات الفاكهة قبل خلودها الى النوم. تصرخ في وجهها طيلة اليوم. ممنوعٌ على "أدجووا" أن تأكل سوى الأرز. واذا جاعت، يحظّر عليها الخروج لشراء علبة سردين. ومن أين لها المال لتشتري مأكولات معلبة؟ لا خيارات سوى انتظار الفرصة السانحة للهرب.
تقول حاماتي لـ"النهار" أن "الجمعية ارتأت اعتماد مبدأ الوساطة لاقناع رب المنزل التخلي عن كفالة العاملة الغانية قبل اللجوء الى اي خيار تصعيدي. نجحت المفاوضات، ووجدنا كفيلاً جديداً تعهّد بضمان حقوقها وتأمين حياة لائقة لها. كان هدفنا الوقوف عند رغبتها عدم العودة الى غانا، رغم ارجحية حصولها على تعويض مادي في حال ترحيلها لكن تلك الاجراءات تأخذ وقتاً طويلاً". وتردف أن "العنصرية والنظرة الدونية وغير الانسانية تجاه العاملة، أسباب دفعت العائلة الى ظلمها بما يشبه مظاهر العبودية الحديثة".
العاملات الأجنبيات والعبودية الحديثة
بلغ عدد العاملات المنزليات الأجنبيات في لبنان عام 2014 نحو 250 ألفاً، واختلفت جنسياتهن، ما جعلهن عنصراً مثيراً للجدل في مجتمع قوامه 4 ملايين نسمة. وتعتبر هذه الفئة وفق حاماتي الأكثر عرضةً لمظاهر العبودية الحديثة، نظراً لمرور جزء من االعاملات في ظروف عمل قاسية وتعرضهن للخداع، في اطار نظام الكفالة الذي يسهل استغلالهن واستعبادهن والاتجار بهن. الى اي مدى قد تتأقلم العاملة مع مظاهر الاستعباد وتعتبره جزءاً طبيعياً من حياتها؟ تجيب أن "بعض العاملات تخضعن وترضين بمصيرهن لأنهن لا تردن العودة الى بلادهن قبل توفير الأموال لسداد ديونهن كعنصرٍ أول. لكن أكثر ما يحزنني على المستوى الشخصي هو رؤية العاملة جالسة بمفردها حتى في المولات والمطاعم. انها تصرفات علنية خاطئة لا يجب تقبلها او اعتبارها مسألة طبيعية". لكنها ترفض التعميم، وتتمثّل بتجربة عاملة سري لانكية عملت في لبنان لدى أسرة واحدة مدّة 20 سنة وتعتبر نفسها فرداً في العائلة وتذهب في زياراتٍ دورية الى بلادها، لكنها تفضّل الاستقرار في لبنان.
56% يواجهون اساءة جسدية وعاطفية
تفيد دراسة صادرة عن "جمعية انسان" تحت عنوان "نظام الكفالة من وجهة نظر أصحاب العمل أيضاً" أن عمال المنازل الفيليبينيين يتقاضون الأجور الأعلى في لبنان تليها أجور السري لانكيين والنيباليين والأثيوبيين فيما يتقاضى العمال البنغلاديشيون الرواتب الأدنى. وتشير الدراسة أن معيار الفارق في الأجر يعود في رأي اللبنانيين إلى ذكاء العاملة ولون بشرتها واتقانها للّغات وطاعتها لرب عملها. وتلفت الى أن 50% من اصحاب العمل لا يقرأون مضمون العقد، وأكثر من 80% منهم لا يسمحون لعاملاتهن بالخروج من المنزل. وأقرّ 77.9% من أرباب العمل الذين شملتهم الدراسة أنهم يحتفظون شخصياً بجواز سفر عاملهم الأجنبي. وعزا 19.5% من أصحاب العمل ذلك بدافع مسؤوليتهم عن عمالهم. وأقرّ 47.3% منهم، أنهم صادروا جواز سفر العاملة المنزلية لديهم بغية منعها من الهرب او الرحيل، لحماية استثمارهم المالي الذي يشمل التأمين الصحي ونفقات معيشة العاملة وتجديد اقامتها واجازة عملها.
وأكّد 22.1% من أصحاب العمل احتفاظ عمالهم بجوازات سفرهم، واعتبر 59% منهم أنه حقّ طبيعي للعامل أن يحتفظ بجواز سفره، فيما أكّد 36% أنهم سمحوا لعاملتهم بالاحتفاظ بجواز سفرها لأنهم يثقون بها. واشار 26% من أرباب العمل الذين شملهم الاستطلاع الى أن عدم اعتقادهم بوجوب قدرة عمال المنازل المهاجرين على العيش خارج أمكنة عملهم، لأن ذلك يؤثّر سلباً على شخصية العامل، فيما لا يعتقد 13% منهم بقدرة العمال على العيش مستقلين. ولفت 77.9% من المستطلعين عدم تحبيذهم لادراج العمال المنزليين المهاجرين في قانون العمل اللبناني. من جهة أخرى، اكّد 56.3% من العمال المنزليين المهاجرين الذين شملتهم الدراسة أنهم يواجهون الإساءة الجسدية والعاطفية في لبنان، فيما أقرّ 40.6% منهم أن التحدي الأول الذي يواجههم هو النقص في ساعات الراحة.
وصل عدد الاشخاص الذين يتعرّضون لمظاهر العبودية الحديثة في العالم الى 36 مليون شخص وفق ما تشير منظمة "فلتمشِ بحرية"، منظمة أنشأت خصيصاً للحدّ من مظاهر العبودية. وأكّدت الاحصاءات التي أظهرتها المنظمة أن نسبة العبودية الحديثة زادت أضعافاً عن مظاهر العبودية قديماً. وأرجعت هذا الارتفاع الى زيادة اعداد السكان بشكلٍ كبير في الدول النامية، والفساد الحكومي، والهجرة الناتجة عن ظروف اجتماعية واقتصادية. هي نفسها الظروف التي دفعت "أدجووا" الى مغادرة غانا والقدوم الى لبنان. واذا كانت "نعمة" نسيان اقفال باب المنزل، قد أنقذت عاملة منزلية من الاستعباد الحديث، فان عدداً لا يحصى من الابواب لا تزال موصدة.