ينكب مسؤولون أمريكيون، ومشرعون كبار في الكونغرس، ودبلوماسيون أجانب، على التدقيق والبحث؛ في محاولة منهم لفهم أين تتجه إدارة الرئيس دونالد ترامب. ويشوب مزيج من الخوف وعدم التصديق حتى الآن وبعض الأمل ردود الفعل.
ولأن السياسة لم تعد تقليدية كما كانت، فقد قال سفير عربي في واشنطن: «من الصعب جدا أن نشرح لناسنا في الداخل، أننا حقا لا نعرف ما يجري». وكما أبلغني مصدر أمريكي، فإن السبب الرئيسي في هذا العجز عن تقدير توجه الإدارة الجديدة والتغييرات التي سيعتمدها الفريق الجديد في السياسة الخارجية هو الانفصام بين الرئيس ترامب وكبار مستشاريه، ويضيف: «إنه زئبقي على أقل تقدير».
الحيرة أكبر لدى الذين عملوا مع فريق ترامب الانتقالي، فهؤلاء تكوّن لديهم انطباع بأن القائمين على المرحلة الانتقالية، لم يكونوا يعرفون ما يدور حقيقة في عقل الرئيس، وكانت ردودهم مستندة إلى تصريحاته العلنية وليس بناء على اتصال مباشر معه، أو مع أقرب معاونيه. وقد تعرض أحد مسؤولي وزارة الخارجية للإحراج، عندما سئل مرارا أن يشرح أبعاد السياسة التي تعتمد على تشدد أكثر مع إيران، في مقابل انفتاح أوسع تجاه روسيا.
تبلورت المشكلة مع تطور الوضع في سوريا، حيث عملت روسيا وإيران وتركيا على صياغة اتفاق لوقف إطلاق النار، بعيدا عن أمريكا. وفي حين وضع كثير من المراقبين المسؤولية الكبرى بالنسبة إلى تهميش الولايات المتحدة على إدارة باراك أوباما، التي فضلت عدم الانخراط في الحرب الأهلية السورية، أشاروا إلى أنه في حين قد تكون إدارة ترامب موافقة على أن تتولى روسيا زمام المبادرة في سوريا، فإنها لن تبقى محافظة على رباطة جأشها، إذا أصبح لإيران دور دائم وعميق في الشؤون السورية.
إذا حصل هذا الأمر، فإنه لن يقلل فقط من النفوذ السنّي في المنطقة العربية، لكن كما تقول مصادر دبلوماسية في واشنطن، من شأنه أن يشكل خطرا محتملا على إسرائيل، ويضاعف من زعزعة استقرار المنطقة. مما لا شك فيه أن الإسرائيليين بدأوا يشعرون بهذا الضغط، وحسب مصدر أمريكي، فإن اللقاء الأخير بين بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، وفلاديمير بوتين الرئيس الروسي في موسكو، رُتب من أجل السماح لإسرائيل باستمرار العمل على تدمير نقل الأسلحة من سوريا إلى «حزب الله» في لبنان، ثم إن احتمال انتشار قوات «حزب الله» أو مجموعات أخرى متحالفة مع إيران على الجانب السوري من مرتفعات الجولان، سوف يعني أن جبهة كانت هادئة حتى الآن، يمكن أن تتغير نحو الأسوأ مع مرور الوقت.
من ناحية أخرى، رحبت إسرائيل باحتضان الرئيس ترامب الدافئ لها، فهذا، كما يقول المصدر الأمريكي، يعني أن كل القرارات المتعلقة بها سوف تصدر من البيت الأبيض، وهذا تطور مغاير للمواقف التي اتخذتها إدارة أوباما تجاه المنطقة بما فيها إسرائيل، إنما استثنت إيران.
إسرائيل المرتاحة الآن للغزل المتبادل مع ترامب أسرعت في إعطاء الإذن بتوسيع المستوطنات القائمة في الضفة الغربية، وحسب محدثي، حدث هذا تعويضا لإسرائيل بعدما سمحت الولايات المتحدة لمجلس الأمن بإدانة سياسة الاستيطان الإسرائيلية، من خلال عدم استعمالها حق النقض، كما كانت تفعل بشأن القرارات السابقة التي تدين إسرائيل.
لكن لوحظ أن وعد ترامب بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس قد تلاشى، حتى في الاتصال الهاتفي مع نتنياهو فلم يأت الاثنان على ذكر هذا الأمر. وفي حين ترفض إسرائيل - نتنياهو الاعتقاد بما قد يسببه مثل هذا القرار من تصدعات، وربما حروب إضافية في المنطقة وإرهاب، فإنها كما يبدو لم تعد تعتبر هذه المسألة أولوية تستحق إثارة دولة مثل الأردن التي ترتبط بعلاقات دبلوماسية معها، ولها مكانة خاصة في واشنطن وعند صناع القرار الأمني هناك. ثم إن إسرائيل مثل كثير من دول المنطقة تفضل أن تستخدم الولايات المتحدة «المتجددة» نفوذها السياسي والعسكري في محاولة لاحتواء إيران.
في هذه الخانة، فإن التوقعات أن يُعطى القادة العسكريون المرابطون في منطقة الشرق الأوسط مجالا أكبر للرد على أي تحد إيراني للقوات الأمريكية. ويقول محدثي الأمريكي، إن قواعد الاشتباك سوف تتغير، لافتا إلى أن مايك فلين مستشار الأمن القومي والجنرال المتقاعد جيمس ماتيس وزير الدفاع، اعتمادا على خبرتهما العسكرية؛ حيث تعرضت الوحدات الأمريكية تحت إمرتهما لهجمات من مجموعات تدعمها إيران، لا سيما في العراق، لن تقيدهما الحسابات السياسية للبيت الأبيض كما كان الوضع في ظل إدارة أوباما. أما بالنسبة إلى الإيرانيين، وحسب مصادر دبلوماسية مطلعة على الموقف الإيراني، فإن طهران حذرة جدا من الإدارة الأمريكية.
ويسود اعتقاد هناك بأنهم لا يتعاملون الآن مع إدارة أمريكية تتطلع إلى تحسين علاقتها معهم. الإيرانيون الآن في حيرة، عاجزون عن تفسير ترامب. وأقصى ما يعرفونه هو أنه لا يمكن التنبؤ بتصرفات أو ردود فعل الرئيس الجديد، ويعتقد دبلوماسي أوروبي كانت بلاده طرفا في المفاوضات حول الاتفاق النووي مع إيران، أن إدارة ترامب لا تريد تمزيق الاتفاق، ليس احتراما لتوقيعات الدول الأربع الأخرى، إنما لأنها لن تتورع عن اتخاذ سياسة صارمة مع إيران، وفي رأي هذا الدبلوماسي، فإن سياسة ترامب المقبلة مع إيران ستكون إشارة جيدة للجميع، لا سيما كثير من الدول العربية التي سترحب بهذه السياسة القادرة على أن تردع التدخلات الإيرانية.
استفادت إيران كثيرا من إدارة أوباما... انتشرت وحفرت عميقا في سوريا والعراق، وتدخلت بقوة في اليمن، وحاولت في واشنطن اغتيال السفير السعودي السابق عادل الجبير، وزير الخارجية الحالي، وبالتالي ليس مستغربا تحميل مواطنيها الأبرياء ثمن تصرفات القيادة المتطرفة بمنعهم من السفر إلى الولايات المتحدة.
كان هذا أول اختبار «إيراني» لإدارة ترامب. هي اعتقدت بعودة أمريكية للاقتصاص من إرهابيي تفجيرات نيويورك عام 2001، يوم الأحد الماضي وفي قناة «فوكس»، قال محافظ نيويورك السابق، رودي جولياني، الذي شارك في وضع المذكرة الرئاسية بمنع مواطني 7 دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة إن «السعودية تمر الآن بتغييرات ضخمة، إنها ليست السعودية السابقة»، وجاء في البيان الذي وزعه البيت الأبيض إثر المكالمة الهاتفية بين ترامب والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز أن الزعيمين «اتفقا على أهمية التطبيق الصارم لخطة العمل الشاملة والمشتركة والتصدي لأنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة»، وأعلن الرئيس عن دعمه للبرنامج الاقتصادي لرؤية المملكة عام 2030.
من ناحية أخرى، يعتقد السعوديون أن لديهم شخصا يتفهمهم، وهو ريكس تيلرسون، الذي، خلال المساءلة التشريعية، طلب مرارا وتكرارا الحصول على «معلومات أعمق» عن السياسة الأمريكية الحالية تجاه المملكة، مؤكدا للمسؤولين الأمريكيين أنه على دراية كاملة بكيفية إدارة الأمور في السعودية. إن سيل المذكرات الرئاسية التي وقع عليها ترامب تؤكد، خلافا لبعض التوقعات، أن الرئيس ملتزم بوعوده خلال العملية الانتخابية، أما سهولة تحقيقها فهذه مسألة أخرى. هي أثارت مظاهرات وستواجه من دون شك تحديات قانونية، لكن أبرز ما أكدت توقعه أن أسلوبه بصفته رجل أعمال سوف يكون أسلوبه بصفته رئيسا.
في كتابه «فن الصفقة» وصف ترامب طريقة التفاوض التي يعتمدها: «اهدف إلى الأعلى جدا وبعد ذلك استمر في الدفع والدفع والدفع». ولأنه توقع معارضة لسياساته كان من الطبيعي أن ينطلق بطريقة قوية جدا تصدم. اعتمد نقيض الدبلوماسية وأزال بردود فعله على مذكراته الرئاسية أي أمل في أن أسلوبه في الرئاسة سيكون حذرا.
خلال الحملة الانتخابية، حذر خبراء في التفاوض، من أن أسلوب ترامب الذي نجح في الأعمال سيكون كارثيا في السياسة والدبلوماسية، ويؤدي إلى طريق مسدود. وسوف نجد عاجلا من هو على حق. وبكل الأحوال، كان العالم يحتاج إلى من يحرك المياه الآسنة فيه، علّ الصدمات التي كالها ترامب تعيد العالم إلى أرض الواقع وتعيده إلى التوازن.
هدى الحسيني