على مدار الأشهر الأخيرة، خسرت الفصائل المسلّحة السورية أبرز البؤر التي كانت تسيطر عليها في ريفَي دمشق الغربي والشرقي. حصل هذا بأسلوب الضغط العسكري على هذه البؤر الذي استتبعَته مصالحات بين مواطنيها والدولة السورية وترحيل المسلحين منها الى منطقة إدلب.
 
دمشق ومعها موسكو تعتبران أنّ هذه المصالحات بين النظام والبؤر الساخنة تفوق أهميتها، على مستوى إنهاء الحرب السورية، حوارات جنيف بين المعارضة والحكومة السورية.
 
وبعد إخراج المسلحين من حلب وَضعت حميميم (مركز القيادة الروسية) خطة لإحراز مصالحات بين النظام وتسعين بؤرة تتحصّن فيها المعارضات المسلحة في أرياف دمشق وحمص وحماه.
 
وتمّ الإيضاح أنّ هدفها يرمي الى «إخراج الثورة من هذه البؤر وإعادتها الى حضن الدولة». يفسّر هذا الهدف لماذا موسكو تَغضّ الطرف عن هجوم النظام وحليفه «حزب الله» على بلدات وادي بردى، على رغم مطالبة تركيا لها بتنفيذ وعدها كضامِن للهدنة بمَنع خرقها.
 
والأحد الماضي كان الجيش السوري يُنهي ملف وادي بردى متجاوزاً هدنة استانة، وفي الوقت نفسه كانت وزارة الدفاع الروسية ومعها وزير الخارجية سيرغي لافروف وليس العكس، تعيد إنتاج مؤتمر استانة، عبر دعوتها شخصيات مُنتقاة من قادة الفصائل المسلحة والمعارضة المستقلة للتشاور مع روسيا حول بدء معركة داخل المعارضة السورية، بغرض تشكيل وفد سوري معارض الى جنيف ليس لديه شروطاً مسبقة لبدء مفاوضات سياسية مع النظام.
صار واضحاً الآن انّ الميدان السوري، المُتّسِم بالاقتدار الروسي، هو من يصنع ليس فقط تعديل ميزان القوى المضطرد لمصلحة النظام، بل أيضاً يتمّ فوقه عَقد «طاولة مصالحات أمنية وتطبيع سياسي» بين النظام وبين القاعدة الاجتماعية للمناطق التي كانت تنتشر فيها المعارضات المسلحة قبل أن ترغم الآن على نقل عناصرها وعائلاتهم للتجمّع حصراً في إدلب وريفها.
 
وهذا مسار يؤدي بالتدريج الى سحب ثلاثة أرباع الاجتماع السوري من سيطرة المعارضة وإعادته الى حضن الدولة، ويجعل مؤتمر جنيف المرتقب استكمالاً لمفاوضات في مصالحات الميدان التي تتحكّم روسيا بمسار نتائجه، وبالتالي بنسب التنازلات المطلوب تقديمها للحل السياسي، سواء من المعارضة والنظام، وحتى من القوى الاقليمية.
 
والى الهدف السالف الذي يشكّل إحدى الخلفيات المركزية لمعركة تحرير وادي بردى وأخواتها من بؤر المعارضات المسلحة خارج منطقة إدلب، توجد أهداف أخرى أبرزها هدفان: الأول، إستمكال خطة تأمين أمن العاصمة دمشق التي أعلنتها موسكو «خطاً أحمر». والثاني، إستكمال خطة تأمين حدود سوريا الشمالية مع لبنان التي أعلنها «حزب الله» بالتعاضد مع النظام «خطاً أحمر» ايضاً.
منذ آب الماضي، بدأ الحزب والجيش السوري تنفيذ خطة تصفية البؤر المسلحة في الغوطة الغربية. ففي 26 من الشهر نفسه، سقطت «داريا»، وأعقب ذلك خروج المسلحين منها الى إدلب وإتمام مصالحة بين النظام وسكانها، ثم أعقبها إنجاز مصالحات بالأسلوب نفسه بين النظام ومناطق مدينة «معظمية الشام» و«قدسيّا» و«الهامة»، و«خان الشيخ»، وحالياً في «وادي بردى».
 
وكلّ هذه المناطق التي خرج مسلّحوها منها الى إدلب تتسِم بسِمة أنها تقع في ريف دمشق الغربي، وتعتبر مناطق ذات حساسية تأثير عالية على استقرار الحدود السورية مع لبنان.
 
ولكنّ استكمال خطة تأمين دمشق وحدود لبنان الشمالية مع سوريا، لا يزال أمامها أهداف أخرى لتصبح كاملة، يرجّح أنه سيتمّ التعامل معها في المرحلة المنظورة، وأبرز هذه الأهداف مدينة الزبداني ومضايا وجرود منطقة وادي بردى وبعض قراها والجرد المقابل لعرسال و«بيت جن» المقابلة لشبعا، حيث لا تزال المعارضات المسلحة تسيطر عليها.
 
يوجد تَوقّع أنّ المعارضة المسلحة لن تستطيع الصمود طويلاً في هذه المناطق. وعليه، سيكون ممكناً خلال فترة تسبق عقد مؤتمر جنيف، إعلان النظام تأمين أمن دمشق ومنطقة شعاعها الأمني، وإعلان «حزب الله» تأمين الجزء الاعظم من امن حدود لبنان وضمناً تأمين تواصله اللوجستي بين مناطق انتشاره في سوريا ومناطقه في البقاع اللبناني، وذلك على طول الخط من ريف دمشق وصولاً الى جبال القلمون حتى حمص. وبتحديد أكثر تفصيلاً: من تلكلخ الى منطقة القصير، فمنطقة القلمون الغربي الى منطقة وادي بردى حتى منطقة جبل الشيخ.
 
تبقى هناك ثغرات قليلة، تواجه إتمام «حزب الله» هدفه المركزي حسب نسخته الاولى التي أعلنها عند بدء مشاركته في الحرب السورية، وهي حماية الحدود اللبنانية من خطر تسلل الارهابيين عبر مناطق حدودية سورية الى مناطق البقاع أو شَنّهم هجمات كبيرة عبرها الى مناطق في عمق شمال لبنان (طرابلس).
 
هذه الثغرات تقسم لنوعين، أولهما معقّد لأنها ذات صلة بتعقيدات إقليمية وداخلية، كجرود عرسال غير المعزولة عن تعقيدات الوضع اللبناني الداخلي رغم الرهان على أنّ تفاهمات ما بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية قد تساهم في تلطيفها، و«بيت جن» التي لها حسابات إسرائيلية قد يتكفّل الروس بمعالجتها.
 
امّا النوع الثاني من الثغرات فسهلة الحسم، كالزبداني ومضايا، التي تؤكد كلّ المعلومات ان تأخّر الحزب في إسقاطهما يعود الى تقدير سياسي وليس عسكرياً.
 
والفكرة الاساس تكمن في ما إذا كان «الحزب» يقترب من اعلان تحقيق الهدف الاساس لتدخله في سوريا، وذلك حسبما جاء في فذلكته الاولى لتبرير هذا التدخل (حماية حدود لبنان)، خصوصاً أنّ الهدف الاساس الثاني، المتمثّل في حماية النظام، صار الآن وراء ظهره بعدما تكفّل الروس بذلك.
 
فهل نشهد قريباً تطوّراً من نوع إعلان الحزب بدء تخفيف وجوده العسكري في سوريا حسب بعض التوقعات السائدة في الكواليس ذات الصلة بمشاورات ما بعد استانة المستمرة حالياً في موسكو من خلال مفاوضات بين معارضين سوريّين وروس وأتراك تجري بعيداً عن الاضواء؟