«ع صوص ونقطة»... كأنّه يلفظ أنفاسَه الأخيرة، هذا واقعُ حال المبنى السكني الملاصق لـ»سنتر المتحف» والمحاذي لمستشفى العين والأذن، المهدّد بالانهيار. رغم ما تَحمَّله هذا المبنى من طعنات في الحرب وآثار لقذائف استقرّت في طبقاته، كان لا يزال يضجّ حياةً، إلى أن سمعَ قاطنوه في ليلة «ما فيا ضوّ قمر»، تفسّخات وكأنّ المبنى «عم بِزيح»، سرعان ما عَلت صرختهم خائفين من الموت، «بعد ما نسينا انهيار مبنى فسّوح بالأشرفية ع راس سكّانو!». للّيلة الثانية على التوالي، لم يذق أهالي المبنى المجاور لسنتر المتحف النوم، «عند مين بدنا نروح؟ وين بدنا ننّام؟» أسئلة شغَلت بالهم من دون أن يجدوا لها أيّ جواب، وما ضاعفَ معاناتهم أننا في آخِر الشهر وكلّ عائلة «بدها السترة ليجي المعاش».
في التفاصيل...
تَروي إحدى القاطنات المتضرّرات لـ«الجمهورية»: «منذ سنوات نَسكن هذه الشقة، ولكنّنا من الذين يدفعون الإيجارات الجديدة، نحو 5 آلاف دولار في السنة، أسكن مع عائلتي بخير وسلام.
قرابة الحادية عشرة والربع ليلاً (أمس الأوّل) سمعنا «لَبدة» على الارض، ظننّا أنّ أحد أواني المطبخ وقع أرضاً، لم نبالِ. وعند الحادية عشرة والنصف، عدنا وسمعنا صوتاً قويّاً جداً، إعتَقدنا أنّه إنفجار، فخرجنا من منازلنا، وتأمّلنا المبنى فوجدنا أنّ أحد أعمدة الطابق الأوّل لجهة الطريق، عن اليمين، ظهرَ منه الحديد، وكأنّه إنكسَر ويكاد ينفصل عن المبنى من نصفه».
وتضيف: «قمنا بالاتصالات اللازمة وحضرَت الأجهزة الأمنية لتُبلغنا أنه علينا إخلاء المبنى في الليلة ذاتها خوفاً على سلامتنا، فما كان بوسعِنا إلّا أن نحملَ أمتعتنا الأساسية ونغادر كلٌّ إلى أقاربه. منّا مَن غادر بثياب النوم، وآخرون أجروا اتّصالاتهم ليتأكّدوا مَن بوسعه استقبالهم، على أساس «الصباح رباح «...».
وتتابع بنبرةٍ لا تخلو من القلق: «أتينا صباح اليوم التالي (أمس) نتفقّد المبنى ونواكب تقارير خبَراء البلدية ولنعرف رغبة مالكي المبنى». والنتيجة؟ تجيب: «تكمن المشكلة في أعمدة الشرفات، علماً أنّ موقع بنايتنا كان على خط النار في فترة الحرب «آكِل قذايف ليوم القذايف»...
وعند سقوط مبنى فسّوح أرسَلت البلدية من يكشف على الأبنية القديمة، وكان المبنى الذي نقطنه من الأبنية التي أشيرَ للمالك بضرورة ترميمِها، ولكن منذ ذاك الوقت لم نشهد أيّ تحسينات».
مبنى تجاوَز الـ70 عاماً
يُقاطعها جارُها، وقد أكله الشيب: «أبلَغونا بضرورة الإخلاء مدة 10 أيام قد تكون قابلة للتجديد». منذ متى تسكن هنا يا عمّ؟ يُجيب محاولاً استرجاعَ الماضي، فيروي لـ«الجمهورية»: «منذ زمن بعيد، فعمرُ المبنى تجاوَز الـ70 عاماً، وفي البداية كان مكوَّناً من طابقين الأرضي والأوّل، ولاحقاً أضيف إليه 3 طبقات، أي منذ نحو أكثر من 40 عاماً». وهل طُرح عليكم من بديل؟ يجيب بحيرة من أمره محاولاً امتلاكَ أعصابه:
«البديل؟ عن أيّ بديل تتحدّثين في بلدنا، طبعاً دبِّر حالك هي القاعدة!». وبينما هو يمشّط المبنى بنظره من الأعلى إلى الأسفل، يتدخّل جارُه، مؤكّداً «أنّ ساكني المبنى كلّهم من المستأجرين «ع قد حالُن»، يقطن في كلّ طابق أقلّه 4 أفراد».
ويضيف كمن يبحث عن «قشّةِ» أملٍ يتمسّك بها: «سمعتُ الدركي يقول بدُّن يعطونا تعويضات سَكن». يقاطعه العجوز كمن استفاق من غيبوبة: «كِلّو حكي! حكي نوّاب ووزرا، منشوف نجوم الضهر وما منشوف ليرة».
وكيل المالك
ما مصير المستأجرين؟ ماذا عن ترميم المبنى؟ وغيرها من الأسئلة توجّهنا بها إلى المحامي طارق فران وكيل مالكي المبنى، الذي يؤكّد «متابعته للمسألة بأدقّ تفاصيلها». ويقول لـ«الجمهورية»: «منذ أن تَبلّغنا من المستأجرين أنّهم يسمعون أصواتَ تشقّقات قوية، أتينا منذ الصباح الباكر وتبيّن لنا تصدّع في المبنى، ولكن ليس في العمودين الاساسيَين إنّما في العامودين اللذين يسندان الشرفات، كذلك أتت بلدية بيروت وكشفت».
ويوضح: «أتى القرار من قاضي الأمور المستعجلة، بضرورة إخلاء المبنى، 10 أيام قابلة للتجديد، في هذا الوقت طلبنا تعيينَ خبير، وهو سيكشف على المبنى، وبناءً على تقريره الخاص سنَسير في الأيام المقبلة»، مضيفاً: «حيث يُطلب منّا سنُرمّم، لا يسعنا قول أيّ شيء قبل التقرير».
أمّا عن مصير العائلات في هذه الفترة، فيجيب: «ما سنقوم به هدفُه صيانة سلامتِهم ولكن لا يمكننا أن نؤمّن لهم البديل، ونَعمل بالسرعة اللازمة لنعيدهم إلى منازلهم». أمّا عن عمر المبنى: «لا أعرف بالتحديد ولكن لا شكّ في أنّه قديم».
أسباب التصدّع
رغم طلبِ الإخلاء، حضَر، أمس سكّان المبنى تباعاً يتفقّدون أغراضهم. النسوة يكملن أخذ الحاجيات، فيما الرجال وقفوا يتبادلون أطراف الكلام أمام المبنى، وهم يتأمّلونه، محاولين إشباع فضول الصحافيين. «ممنوع الاقتراب بناء مهدّد بالسقوط»، عبارة أثارت فضول المارّة الذين عجزوا عن تصديق أنّ المبنى مسكون من الأساس، فعجزوا عن ضبطِ تعليقاتهم: «هذا المبنى تكملة للمتحف! لا تهزّو واقِف ع الشوار!
أشبَه بمبنى أشباح». فيما انهمكَت القوى الأمنية في قطعِ الطرق المحيطة، وطلبَت من المواطنين المحيطين به إخلاءَ المنطقة. وقد حضَر عدد من المهندسين الفنّيين لتقدير خطر الانهيار.
في هذا الإطار، التقَت «الجمهورية» الخبيرَ الفني المحلف المهندس مُعين نجم الدين الذي توقّف عند أسباب تصدّع المبنى، موضحاً: «البناء قديم، يفتقر إلى الصيانة، أضيفَت إليه طبقات زادت من الأوزان على أساساته، ومع العامل الزمني والاستهلاك، وما شهدته المنطقة من أحداث، تضرَّر الباطون وتصدّعَت الجدران، وضعفَ الحديد». ويضيف: «فنّياً، يبرز التصدّع في الطابق الأرضي والأخير.
يُفترض ترميم الأعمدة، فهي تُركت من دون صيانة، تجلّى الإهمال في ظاهر حالِ الشرفات التابعة لجهة الصالونات فهي المتضرّرة». وعمّا إذا يصلح المبنى للسكن أو ينصح بهدمه، يقول: «أترك النتائج إلى التقرير الرسمي، يصعب تقدير النسبة المئوية لحجم الضَرر، أحتاج إلى كشفٍ ثانٍ».
وليل أمس، أعطى محافظ بيروت القاضي زياد شبيب التوجيهات اللازمة لمصلحة الهندسة في البلدية للمباشرة بأعمال ترميم البناء المهدّد على نفقة المالك اعتباراً من اليوم.
في الختام، يعجز سكّان المبنى عن إخفاء عتبِهم على المالك: «سبقَ وتبلّغَ إنذاراً بضرورة الترميم ولم يتحرّك»، على حدّ تعبيرهم، وهاجسُهم أن تمتد الـ 10 أيام إلى 20 في «حسابات اللبناني»، أمّا خوفهم الأكبر فهو الموت، «شاطرين يغَلّوا إيجارات من دون تحسينات!»... لماذا الاستخفاف بأرواح المستأجرين؟.