عاد إلى ذاكرتي، مع صدور قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب ببناء جدار على طول الحدود مع المكسيك، مشهدٌ رأيته عام 2009 في أحد نوادي سباق الخيل في ضاحية من ضواحي مدينة ليكسنغتون في ولاية كنتاكي الأميركية. كنتُ مدعوا إلى مؤتمر في جامعة كنتاكي في تلك المدينة حول "الإعلام والحرب" وجرى تنظيم زيارة للمشاركين إلى نادٍ شهير لتربية الخيل في هذه الولاية المسماة "عاصمة الخيل في العالم"... بمن فيها بل في مقدمتها الخيول العربية حيث استثمارات بعض مالكي الخيول العرب بعشرات إن لم يكن بمئات ملايين الدولارات.
ما لفت نظري في النادي الفخم حين زرنا الاسطبلات ( النظيفة) وجود عدد كبير من العمال ذوي السحنة المكسيكية. اللافت ليس هذا، بل هو عدم وجود غير المكسيكيين بين العمال المهتمين بالاسطبلات وخيولها وبعضها من نجوم الخيول المتقاعدة برفاهية بعد زمن ذهبي ورهانات بالملايين عليها. سألتُ المسؤول الذي استقبل مجموعتنا عن سبب عدم وجود غير المكسيكيين للاهتمام بالخيول في بلاد "الكاوبوي"؟ فابتسم وقال هذا تقليد مضى زمن عليه هنا. وعلمتُ لاحقا من أحد مرافقينا في جامعة كنتاكي أنهم من المهاجرين غير حاملي الأوراق الشرعية وبرواتب متدنية والذين يتحولون مع الوقت الطويل إلى مهاجرين قانونيين.
استمعتُ قبل أيام على اليوتيوب إلى محاضرة ألقاها الاقتصادي الأميركي الشهير ميلتون فريدمان عام 2003 ( توفّي عام 2006). اعتبر فريدمان فيها أن الهجرة إلى أميركا لكي تكون مفيدة للاقتصاد يجب أن تكون غير شرعية. وتوقف المحاضر الذي عمل مستشارا للرئيس رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر وكان يعتبر قريبا من الحزب الجمهوري أن المهاجرين الشرعيين لا يفيدون الاقتصاد الأميركي لأنهم يعملون دون الحصول على حقوق المواطن الأميركي في الرعاية الاجتماعية والصحية! وأن حصولهم على رواتب أقل لأعمال لا يقوم بها الأميركيون هو أساس في النظام الاقتصادي. ( نتذكر هنا وضعية النازحين السوريين في لبنان والوجوه الصالحة فيها للمقارنة والوجوه غير الصالحة؟).
ويذكِّر ميلتون فريدمان في المحاضرة نفسها، لدعم وجهة نظره، أنه حتى عام 1914 كانت الهجرة إلى الولايات المتحدة مفتوحةً إذ يكفي أن يصل المهاجر إلى الأرض الأميركية لكي يدخل. ولهذا تثبت التجربة التاريخية بنظره أن الهجرة المفتوحة عادت على أميركا بالتقدم. وهي تجربة لا يمكن تكرارها بالصيغة نفسها لذلك اعتبر المثال المكسيكي الحالي هو المعيار مع مشكلة تدفق المهاجرين غير الشرعيين المكسيكيين التي نفّذ الرئيس الأميركي الجديد تعهدَه بـ "معالجتها" عبر قراره الشروع ببناء جدار على طول الحدود مع المكسيك.
اليمين الأميركي هو الذي كان يقف أساسا وراء "فلسفة" الهجرة غير الشرعية المعاصرة كعنصر قوة أساسي للاقتصاد الأميركي واليوم يأتي بممثل لاتجاه معاكس يقوم على كسر موجات هذه الهجرة. ميلتون فريدمان الاقتصادي اليميني كان يعبِّر عن نزاهة فكرية أكيدة حين يكشف بوضوح أهمية الهجرة غير الشرعية بالنسبة لنظام الاقتصاد الأميركي بل لنظام الحياة الأميركية.
أبعد من مجرد التقييم الاقتصادي، تبدو الترامبية والانعزالية البريطانية وجهين بارزين من وجوه ظاهرة أعمق هي مرور الحضارة الغربية في لحظة ضيق شديد من أتباعها المسلمين وأتباعها الأفارقة وأتباعها اللاتينيين جنوب القارة الأميركية. هذا الضيق الغربي يشمل طبعا صعود تيارات اليمين المتطرف الأوروبي.
لن تكون المقاومة من داخل الحضارة الغربية لتعبيرات هذا الضيق ضعيفة وقد بدأت أصلا في كندا وداخل الولايات المتحدة وداخل أوروبا. لكن هذه الحضارة المسيطرة على العالم تحاول الآن وضع حد لسياسات ليبرالية في موضوع الهجرة. أحد الأسئلة الكبيرة هو كيف سينعكس الوضع الجديد على السياسة الأصلية المتطورة للنظام الغربي والقائمة على تشجيع سياسة هجرة - استقبال النخب العلمية والثقافية الآتية من بلدان العالم المتخلف الذي يدخل بعضه الواسع الآن مرحلة الانهيار.
ومع أن الاستخدام الغربي للاسلام كورقة سياسية له سجل حافل وناجح في المائة عام الأخيرة فإن هذا الضيق وصل إلى مرحلة إعادة نظر في الأثمان "الداخلية" التي يدفعها الغرب مقابل هذا الاستخدام. المرحلة الأخيرة من الأزمة أثارها وصول خيارات التوظيف الغربي الاقتصادي والسياسي و"الثقافي" للعالم الثالث ولاسيما العالم المسلم، الأكثر عرضةً للانهيار، إلى مرحلة الاضطرار لاستقبال كتل سكانية كبيرة دفعة واحدة تجاوزت حدودها الديموغرافية حدود تطعيم مجتمعات الغرب بقوى عاملة تقوم بالوظائف الدونية التي لا تقوم بها جماعات السكان الأصليين أو المستقرين.
لم تُدرَس ( في بلادنا) كفايةً بعد ظاهرة استقبال ألمانيا لمليون لاجئ معظمهم سوريون خلال العامين المنصرمين، ونتائجها المفيدة للاقتصاد الألماني على الأرجح، وماذا ضخت من عناصر قوة في هذا الاقتصاد، إلا أن الموقف "القاري" الأوروبي ممثلا بالمعارضة الصريحة لسياسة ترامب التي يبديها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تدل على الانقسام الغربي البادئ، سواء داخل الولايات المتحدة أو بينها وبين أوروبا، دون أن ننسى التميّزَ الكندي عن ترامب، وعلى حدة في السجال غير عادية.
لكن بالمقابل لم يُختبَر بعد مدى شعبية الاجراءات الترامبية داخل أميركا. فالصوت الأعلى حتى الآن يأتي من معارضي ترامب، لكن ما هو عمق التأييد لترامب بعيدا عن المدن الكوزموبوليتية الأميركية الكبرى لا سيما أن البعد الديني حاضر جدا في سياسة ترامب. نقول ذلك رغم ضخامة واتساع تظاهرات المطارات التي شملت العدد الكبير من المدن: نيويورك، نيووارك، واشنطن العاصمة، بوسطن، مينابوليس، سان فرنسيسكو، فيلادلفيا، لوس أنجلوس، سان دييغو، سياتل، دنفر، بورتلاند، شيكاغو، أتلانتا، سالت لايك سيتي، ديترويت، وأوماها. بعض هذه المدن حدودية وبعضها داخلية. لكن هناك أرياف ومدن لم نسمع عنها شيئا.
لهذا يجب الحذر الآن من إطلاق الأحكام حول مدى ضعف أو قوة القرارات الترامبية مهما بلغت "حماقتها" أو فجاجتها ولا سيما إطلاقَها من الشرق الأوسط، الشرقِ الأوسطِ ذي الصورة التي لا يمكن الدفاع عنها كثيرا أو حتى قليلا في الغرب.
والسؤال الجوهري هنا: هل الترامبية هي فقط ظاهرة أميركية أملتها لحظة ضيق داخلية عابرة أم تعبير عن استراتيجية تهديدية جديدة داخلية وخارجية للرأسمالية الأميركية، سيدة الرأسماليات في العالم.
بعد فوزه، ربما صار ينبغي التفريق بين ترامب "الأحمق" بل حتى "التافه" وبين الترامبية "الرصينة".