الاستبداد، أيا كانت هويته الفكرية أو السياسية، هو البيئة الملائمة لنمو ظاهرة التكفير والإرهاب معا. فالنظام السياسي الذي يكتم حق التعبير عن الاختلاف والتنوع في المجتمع، يمارس فعلا تكفيريا، وينمي هذه الظاهرة لدى البيئات المحكومة أو المصادرة.
ربما ليس جديدا في السياسة الأميركية تجاه العالم العربي والإسلامي انهماكها في العقود الأخيرة بمحاربة التطرف الإسلامي ومنظماته المسماة إرهابية في العالم، لكن الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، وخلال حفل تنصيبه ركز على هذه الاستراتيجية التي حدد فيها هدف القضاء على التطرف الذي تمثله منظمات إسلامية وتعهد بالقضاء عليها وإنهائها.
هذه التعهدات ليست جديدة إذ طرحت من قبل رؤساء سبقوه وكلٌ عبّر في البيت الأبيض على طريقته في سبيل تحقيق هذا الهدف. ولكن الجديد الذي يحمله صاحب شعار “أميركا أولا” في هذا القرن، الشعار الذي برز في أميركا زمن الحرب العالمية الأولى، هو الشخص الداخل إلى البيت الأبيض ليحكم أميركا وربما العالم من موقعه الجديد، هو الرئيس الواضح حدّ الفجاجة والغامض إلى حدود الحيرة. حين يرفع دونالد ترامب شعار محاربة التطرف الإسلامي، فهو يختلف عمن سبقه من الرؤساء خلال هذا القرن، بل يذهب في خيار المواجهة بلا قفازات وبلا طروحات تجيب عن الأسئلة التي يفرضها العنف الذي دمر دولا عربية ولا يزال يهدد بنيانها الاجتماعي، ويفتح باب النار على الدول الغربية بلا تردد.
سواء كان جورج بوش الابن الذي غزا العراق وقبله أفغانستان، أو باراك أوباما الذي قاد عملية إنهاء التدخل العسكري الأميركي البري خارج الحدود وسحب الجيش الأميركي من العراق وأفغانستان، فإن كلا الرئيسين كان يحاول تفسير الإرهاب انطلاقا من أسباب دينية وسياسية واقتصادية، ويحدد سببا محوريا يتمثل في أن غياب الأنظمة الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي يشكل علّة تمدّد الإرهاب وانتشاره.
دونالد ترامب لا يعنيه كل ذلك، لا يحمل مشروع أسلافه. هو على طريقة الكاوبوي يعتقد أن هناك إرهابا يجب القضاء عليه بالقوة، لذا لم يعنه مثلا ولو في الشكل، أن النظام الاستبدادي في سوريا بقيادة بشار الأسد، هو أحد أبرز أسباب نشوء هذه الظواهر المتطرفة. قال ليست لديّ مشكلة مع الأسد قبل حفل تنصيبه، وهو نفسه الذي توعّد بأنه سينقل السفارة الأميركية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، ودعا دول الخليج العربي إلى أن تتولى تمويل عودة اللاجئين السوريين في أوروبا إلى مناطق آمنة في شمال سوريا وتوفير الدعم المادي لإقامتهم.
وهو نفسه من قال إنه سيلغي الاتفاق النووي المتعلق بالطاقة النووية السلمية في إيران. يعلم المراقبون أن كل ما قاله ترامب لا يمكن أن ينفذه كله، ففي بلاد العم سام يبقى الرئيس مقيّدا بمؤسسات شريكة في القرار سواء في الكونغرس أو في الدوائر العسكرية والاستخبارية الحاكمة في هذا البلد، فضلا عن المؤسسات الاقتصادية التي تشكل بمجملها عناصر في أي قرار كبير يتخذه الرئيس. لكن ذلك لا يعني أن رئيس الولايات المتحدة ليس حاكما ويفرض وجهة نظره في السياسات الأميركية على مختلف الأصعدة.
الإرهاب هو الملف الساخن على طاولة ترامب، ولعل الغموض الذي يحيط بما يمكن أن يقوم به الرئيس الجديد في العراق أو في سوريا وغيرهما، هو ما يجعل أطراف النزاع الإقليمي في سوريا في حالة ترقب للخطوات الأميركية سياسيا وعسكريا، فالتقارب الروسي-التركي لم يتم في سياق استفزازي للسياسة الأميركية إن لم يكن بتنسيق ضمني مع الإدارة السابقة، والإصرار الروسي على دعوة واشنطن للمشاركة في مؤتمر أستانة مرفقا برفضها الاعتراض الإيراني الخجول على أي مشاركة لواشنطن في المؤتمر، يؤكد أن روسيا لا تريد أن تبتعد عن واشنطن، وعن الرئيس الجديد تحديدا، في مقاربة أي تسوية في سوريا. فروسيا التي التقطت عنوان الحرب على الإرهاب تبدو بطبيعة نظام الحكم فيها أقرب إلى النظرية التي يبشّر بها ترامب بالفصل بين الديمقراطية وبين اقتلاع الإرهاب.
على أن ملامح هذه السياسة الأميركية المعلنة في مقاربتها للقضاء على الإرهاب لدى بعض الفئات الإسلامية، لا يمكن أن تبشر بالقضاء على الإرهاب، بل ستفتح آفاقا جديدة لهذه المنظمات التي ستغرف من الينابيع الصافية للتهميش والاستبداد والتمييز بين إرهاب الدول وإرهاب المنظمات. وإذا أضفنا إلى الشهية “الترامبية” نقاط الضعف في الاجتماع العربي الإسلامي وفي البنى الوطنية والقومية، سيبدو الأمر أكثر بؤسا في بلادنا مما هو عليه الحال اليوم.
حين يصبح هاجس الموت العبثي الفردي والجماعي حاضرا بهذه القوة التي يقدمها الانتحاري في مواجهة الحياة، لا بد من السعي لأن يساهم هذا الهاجس في إحياء ما كان ميتا أو مهملا في التفكير وفي الخيارات السياسية والاجتماعية وحتى الفكرية في المجتمعات العربية والإسلامية.
هذا النمط من الموت، المفروض على الناس الآمنين كرها، لا يخرج عن كونه نتاج ثقافة وأسلوب تفكير، يصل إلى حيث انطلق أصلا، أي إلى التكفير ضمن دائرة عبثية محورها الاعتقاد الواهم بامتلاك صاحبه الحقيقة الكاملة. تلك التي تودي به إلى اليأس حين يرى كيف يمتنع الآخرون عن تبنيها أو الأخذ بنتائجها، لا بل يرفضونها، رغم أنه على اقتناع بصوابية رأيه الإلهي الذي لا تلامسه شبهة الخطأ لا من أمامه ولا من خلفه. لذا يوفر هذا الاعتقاد المرضي لدى البعض، قطع المسافة بيسر نحو قرار قتل المختلف من دون أيّ شعور بالذنب، بل على العكس يكون القاتل مفعما بمشاعر الرضى الذاتي على ما يرتكبه.
هذه النزعة، التي تجد جذورها في الفكر الديني اليوم، هي ليست بطبيعة الحال حكرا على بعض التيارات الدينية، الإسلامية منها على وجه الخصوص، بل هي الأساس في مناهج فكرية وسياسية واجتماعية كانت مؤسسة للدكتاتوريات الدينية واللادينية في هذا العالم. فالتكفير إذ ينطلق من شيطنة المختلف، يمشي في خطوة تمهيدية لقتله معنويا وماديا، وصولا إلى تبرير استباحة كرامة ودم فئات دينية أو قومية أو جهوية، بحيث يتم تبرير قتل الطفل والمرأة أو الشيخ. فمع شيطنة المختلف لا يحتاج الأمر إلى الكثير من الجهد في استصدار الفتاوى الدينية المبيحة لدى البعض، أو القرارات غير الدينية لمن هم خارج دائرة الدين.
لا بد من الإقرار بأنّ الإرهاب يجد حاضنا له في ثقافتنا الدينية الاجتماعية والسياسية، وفي الفهم المشوّه للدين من جهة، وفي فهمنا للحقيقة السياسية التي لا تستقيم في وعي الكثير منا إلا على شيطنة الخصم واستباحته معنويا من جهة ثانية، والاستهانة بكرامته الإنسانية، فضلا عن تجاوز حقوقه السياسية والاجتماعية.
وذلك هو التكفير بعينه، وإن لم ينطلق من موقف ديني أو مذهبي. فالاستبداد، أيّا كانت هويته الفكرية أو السياسية، هو البيئة الملائمة لنموّ ظاهرة التكفير والإرهاب معا. فالنظام السياسي الذي يكتم حق التعبير عن الاختلاف والتنوع في المجتمع، يمارس فعلا تكفيريا، وينمي هذه الظاهرة لدى البيئات المحكومة أو المصادرة.
هذا هو الإرهاب التكفيري الذي تتعالى أصوات عربية وإسلامية وعالمية لمواجهته، بعدما أنشب أنيابه في أعناق الجميع. أنياب تتطلب مواجهتها الإقرار بأنّ مصادر نفوذ الإرهاب التكفيري وتمدد قوته يكمنان في الخلل الذي يصيب حياتنا الوطنية ويعطل الحياة السياسية بانفلاتها من قيود الدولة أولا، ومحاولات فرض الاجتهاد السياسي بالقوة غير المشروعة على الآخر ثانيا، وصولا إلى الغرق في تقديم الانتماءات المذهبية والدينية والسياسية على الانتماء الوطني في مرحلة ثالثة. وهو ما دفع إلى تبني خيارات متعارضة زادت من منسوب الاستهانة بمفهوم وحدة الشعب والمؤسسات والدولة.
مع سقوط الأوهام الإقليمية الكبرى تلك التي لا تقوم إلا على شرط إضعاف الدولة، ومع الإدراك الوطني العام المتنامي بعبثية الخروج على منطق الدولة وشروطها، ومع تلمس الحاجة إلى التضامن الوطني، بلا استقواء أو غلبة، بل بالمساواة في الحقوق والواجبات، كجماعات ومواطنين، ثمة حاجة إلى قوة التواضع لمواجهة استكبار المنهج التكفيري والسلوك الإرهابي اللذين يهددان أبسط شروط الحياة الطبيعية في بلادنا، بدلا من “الحلّ الأمني” الذي يفكّر كثيرون فيه. فالحلّ بالتفاهم وليس بالاستقواء أكثر وأكثر، وبالتصالح وليس بالقمع مجددا.
وكما أنّ الإرهاب التكفيري يستند إلى شيطنة المختلف مذهبيا أو دينيا، فثمة حاجة عربية وإسلامية لخفض منسوب شيطنة المختلف سياسيا بالاقتناع بالحقيقة الوطنية الموزعة بين المواطنين، بلا تكفير ولا تخوين.. فهل نجمعها قبل أن يقضي التكفير والإرهاب في دواخلنا على ما تبقى من حياة فينا؟