ساد بيروت يوم أمس، شعور بالارتياح وآخر بالارتياب بعد إحباط تفجيرٍ انتحاري في «اللحظات الأخيرة» أعلنت السلطات الرسمية اللبنانية ان إرهابياً كان سينفّذه في أحد مقاهي «شارع الحمراء» الشهير قبل ان يتمّ توقيفه في موقع العملية المفترضة.
ورغم ان نجاح الأجهزة الأمنية في القبض على الانتحاري المفترض وهو اللبناني (مواليد صيدا) عمر حسن العاصي متلبّساً بالحزام الناسف داخل المقهى، إلا ان هذا التطوّر أيقظ كل المخاوف في بيروت من مغازي عودة لبنان الى دائرة الاستهداف من الإرهاب الذي كان سدّد آخر «ضرباته الموجعة» في نوفبر 2015 حين نُفّذت عملية في محلة برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت أوقعتْ في حينه نحو 43 قتيلاً و240 جريحاً.
وفيما كان لبنان الرسمي يثني على «العملية الاستباقية» لمخابرات الجيش وشعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي التي أدّت الى «إنقاذ رواد المطعم من مجرزة محققة» كما اعلن رئيس الجمهورية ميشال عون، وبينما أشارت تقارير الى ان بيروت تلقّت إشادات من أجهزة أمنية غربية رفيعة «بالعمل الامني المحترف والدقيق لمخابرات الجيش»، فإن عودة الواقع الأمني الى «درجة الخطر العالي» من بوابة الإرهاب المتربّص بالبلاد جاءت في توقيت يبذل فيه لبنان جهوداً استثنائية لمعاودة تطبيع علاقاته مع الخارج ولا سيما مع دول الخليج، مراهِناً على استقطاب مواطنيها مجدداً الى ربوعه بعد ان يتم رفْع تحذير السفر اليه رسمياً وفق ما برزت إشارات بعد زيارة رئيس الجمهورية ميشال عون للسعودية ثم قطر في سياق محاولته وصْل ما انقطع في مرحلة «الجنوح» نحو سياسات خارجية غرّدت معها بيروت خارج «السرب العربي».
كما ان جانباً آخر من الهواجس التي عادت الى الواجهة مع الكشْف عن «عملية الحمرا» التي لم تقع، ان هذا الحدَث، وسواء كان الانتحاري المفترض من مناصري الشيخ الموقوف أحمد الأسير او أعلن مبايعته لـ «داعش»، توّج سلسلة تقارير ومعلومات نُشرت في بيروت منذ فترة عن مخططاتٍ لاستهدافات إرهابية في لبنان بعضها جرى نزْع فتائله من ضمن «الأمن الوقائي» والبعض الآخر قيد الرصد، وكان آخرها ما كُشف عن ان البلاد نجت ليلة رأس السنة من «اسطنبول ثانية» نتيجة توقيف خلية في طرابلس مؤلفة من 11 شخصاً ومرتبطة بالقيادي في «جبهة النصرة» الإرهابي الفارّ إلى مخيم عين الحلوة شادي المولوي كانوا يعتزمون القيام بتفجير سيارات مفخخة في بيروت وطرابلس والضاحية واستهداف مدنيين في التجمعات.
ويفترض ان يشكّل هذا العنوان الأمني الطارئ أحد الملفّات التي سيبحثها في بيروت مجموعة الزوار الذين يصلون تباعاً ابتداءً من اليوم وبينهم الشيخ محمد عبدالله مبارك الصباح موفداً من سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح على ان يلتقي عون (غداً) حاملاً اليه دعوة لزيارة الكويت، والمستشار الخاص لرئيس مجلس الشورى الايراني للشؤون الدولية حسين أمير عبد اللهيان، على ان يصل غداً وفد وزاري سعودي يتقدّمه وزير الدولة لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان، قبل ان تحطّ في لبنان الاربعاء الممثلة العليا للاتحاد الاوروبي للشؤون الخارجية والسياسية والأمنية فيديريكا موغريني.
وفيما تراهن بيروت على ان «العيون الساهرة» لأجهزتها الأمنية ستكون كفيلة بتبديد أي مخاوف يمكن ان تفرْمل عودة السياح ولا سيما الخليجيين الى لبنان وايضاً بتشجيع الخارج على مواصلة وزيادة دعمه للقوى المسلّحة اللبنانية التي حققتْ خلال الأشهر الـ 14 الأخيرة نجاحات كبيرة في تفكيك شبكات إرهابية وخلايا نائمة وتواصل تعقُّب أخرى، فإن تقدُّم الخطر الأمني الى صدارة الأحداث بعد ما «شهدته الحمراء» بدا بمثابة أول «إشارة حمراء» يواجهها العهد الجديد في لبنان الذي كان حتى الأمس منهمكاً في «فترة السماح» التي شكّلتها انطلاقته السلسة في الداخل وفي اتجاه الخارج.
ومنذ ان أُعلن عن إحباط العملية في الحمراء تحوّلت بيروت ما يشبه «خلية نحل» من إجراءات واتصالات لمواكبة هذا الحَدث الذي قدّم الجيش اللبناني روايته حوله في بيان جاء فيه:«أحبطت قوة من مديرية المخابرات قرابة الساعة 10.30 من مساء السبت، عملية انتحارية في مقهى في منطقة الحمرا، أسفرت عن توقيف الانتحاري المدعو عمر حسن العاصي الذي يحمل بطاقة هويته، حيث ضبطت الحزام الناسف المنوي استخدامه ومنعته من تفجيره. وقد حاول الموقوف الدخول عنوة إلى المقهى ما أدى إلى وقوع عراك بالأيدي مع القوة العسكرية، ونقل على الأثر إلى المستشفى للمعالجة».
ورغم رواية الجيش، فإن العملية رافقتْها علاماتُ استفهامٍ شغلتْ أوساط سياسية ولا سيما مع ما كشفه عاملون في المقهى عن ان الانتحاري المفترض دخل وطلب فنجان قهوة ولوح شوكولا قبل ان يصار الى الانقضاض عليه. ومن هذه الأسئلة: لماذا اختيار محلة الحمراء لتنفيذ العمل الإرهابي وأي عنوان كانت ستحمله هذه العملية بتوقيع الانتحاري اللبناني المفترض؟ ولماذا لم يفجّر الانتحاري نفسه بالقوة الأمنية؟ ولماذا دخل المقهى وأخذ وقته لطلب القهوة والشوكولا اذا كان هدفه فعلاً تفجير نفسه في هذا المكان؟ واذا كانت الاجهزة الأمنية ترصده مسبقاً منذ فترة كما قيل فلماذا تُرك يدخل أصلاً المقهى او يمضي فيه نحو 20 دقيقة قبل «التصرف معه»؟
وهذه الأسئلة تزداد وطأتها بعد ان يزور المرء المقهى الذي استعاد كما عاينتْه «الراي» حركته الطبيعية مع رواده الذين تقاطروا اليه منذ الساعات الاولى لصباح أمس.
وفي داخل المقهى، تحدّثت الى «الراي» الشابة التي تولّت أخذ طلب العاصي بعيد دخوله وجلوسه الى طاولة قريبة من الزجاج، قبل ان يطلب قهوة مُرة ولوح شوكولا، ويجري معها حواراً صغيراً سائلاً إياها حول عملها.
وتشير الى ان الانتحاري المفترض كان مرتبكاً قليلاً ولكن لم تظهر عليه اي إشارات الى انه إرهابي يوشك على تفجير نفسه، لافتة الى انه قبل وصوله وكان يرتدي جاكيت سوداء حضر الى المقهى 4 رجال من المخابرات، موضحةً «اننا عرفناهم من طريقة جلوسهم ونظرتهم، قبل ان نتأكد من ذلك بعدما انقضّوا على الانتحاري الذي كان خرج بعد نحو ربع ساعة من دخوله الى خارج المقهى وأجرى مكالمة هاتفية، وحين همّ بالدخول أطبق عليه رجل أمن كان في الخارج ولاقاه مَن كانوا في الداخل وضربوه بأعقاب المسدسات وثبّتوه كي لا يفجّر الحزام الناسف»، مضيفة «اننا في البداية لم نعرف انه انتحاري الى ان صرخ عناصر الامن انتبِهوا كي لا يتفجر الحزام وعندها هرعنا للاختباء مع الزبائن».
يُذكر انه بعد توقيف العاصي مصاباً بجروج، جرى نقله الى «مستشفى الجامعة الاميركية» ومنها الى «المستشفى العسكري» حيث بدأت التحقيقات معه للوقوف على الجهة التي يعمل معها وعلى المكان الذي حضر منه الى المقهى، فيما نُشرت صور للحزام الناسف الذي كان بحوزته والذي كُشف انه كان يحتوي على 8 كيلوغرامات من المواد الشديدة الانفجار وقطع حديدية وفتيل وصاعق تفجير.