وادي بردى الذي يتعرض لحصار وانتهاك متماد من قبل النظام السوري والميليشيات الإيرانية وعلى رأسها حزب الله، يشكل العنوان الأبرز في قراءة مشهد الهدنة بين قوات النظام السوري وحلفائه من جهة، وفصائل المعارضة المسلحة من جهة ثانية، فهذا الاتفاق الذي مهد لمؤتمر أستانة المزمع عقده في كازاخستان في 23 من الشهر الجاري، يتعرض منذ إعلانه إثر خروج مقاتلي المعارضة من حلب الشهر الماضي، إلى انتهاكات يشكل العنصر الإيراني الملمح الأبرز فيها.
 
لقد وفّر التقارب التركي – الروسي القاعدة الأساس التي ارتكز عليها اتفاق الهدنة، ورغم موافقة إيران، مرغمة، على السير في ركاب هذا التقارب والالتزام بمقتضياته على مستوى الهدنة ومؤتمر أستانة، إلا أن ذلك لم يخف الانزعاج الإيراني من وقف العمليات العسكرية، لاعتقادها أن فرص الحسم العسكري لصالح تثبيت سلطة بشار الأسد على كامل سوريا كانت متاحة بعد انتصار حلب، وهو وإن كانت الميليشيات بقيادة الحرس الثوري الإيراني قد ساهمت في إنجازه، غير أن عنصرين أساسيين لعبا دورا في إتمام هذه العملية العسكرية؛ الأول، هو التقارب التركي – الروسي الذي ساهم في رفع الجانب التركي الغطاء عن الفصائل المسلحة إلى حدّ بعيد، بحيث حالت تركيا دون حصول معركة مكلفة لروسيا وللنظام السوري وإيران. والثاني، هو سياسي يتمثل في السعي لإمساك تركيا بكامل أوراق المعارضة المسلحة من خلال إنجاز عملية الفصل بين ما يسمى منظمات إرهابية وغير إرهابية، وكانت معركة حلب شرطا لإتمام الجزء الأكبر من عملية الفصل هذه.
عملية حلب العسكرية كانت، كما تشير الوقائع التي تلت، اختبارا للتقارب بين أنقرة وموسكو، الذي ترسّخ بعدها، وكشفت في المقابل أن القرار الروسي هو الحاسم على مستوى الحرب، أو وقف العمليات العسكرية على جبهة النظام وحلفائه، وأظهرت في المقابل قدرة لدى روسيا على لعب دور وسطي من خلال قدرتها على إدارة اتصالات مع مختلف أطراف النزاع، وهو ما كشفه اتفاق الهدنة من جهة، والإعلان عن مؤتمر أستانة الذي يشكل أيضا اختبارا للدور الروسي في سوريا إقليميا ودوليا فضلا عن الداخل السوري بتلاوينه المختلفة من جهة أخرى.
 
تدرك روسيا التي فعلت أقصى ما يمكن فعله لنظام الأسد لا سيما مع بدء عملياتها العسكرية في سوريا عام 2015، أن فرص استمرار هذا النظام وقدرته على حكم سوريا غير واردة إن لم تتم عملية تغيير فيه ولا سيما في بنيته وفي رأس النظام، فهذا النظام بات أمام حقيقة التغيير إذا كان الهدف الانتقال إلى مرحلة جديدة، وأمام البقاء الشكلي في ما لو أرادت روسيا أولا، وإيران بدرجة ثانية بقاء الساحة السورية ساحة مواجهة وقتال لتحقيق مكاسب إقليمية ودولية لا يمكن أن تتحقق من دونها.
 
بعد ست سنوات تقريبا على انطلاق الثورة السورية، يمكن القول إن هذه الثورة رغم ما نالها من نكسات وتكالب إقليمي ودولي ضد خيارها في تغيير النظام السوري، فإن الحقيقة الدامغة في خضم الأزمة أن العودة إلى الوراء باتت مستحيلة، وأن قدرة النظام على إعادة إحياء سلطته بنفس الشروط السابقة باتت مستحيلة، فثمة حقائق جديدة فرضها الحراك السوري المعارض، مفادها أن المشاركة في السلطة من قبل القوى السورية الاجتماعية والعسكرية والسياسية شرط لأي نهوض بالبلاد من حال الحرب والاستنزاف إلى حال السلم والنظام.
إزاء الخيارات التي يطرحها المسار الروسي في سوريا، ثمة ترقب للموقف الأميركي الذي كان له دور في فتح الآفاق لروسيا كي تدخل موسكو كلاعب محوري ليس في هذا البلد فحسب، بل على المستوى الإقليمي والدولي، ولا يخفى أن الانكفاء الأميركي عن الانخراط المباشر في الأزمة السورية، ساهم إلى حدّ بعيد في تشجيع روسيا على الدخول وبقوة، إلى المسرح السوري وامتداداته.
 
على أن مؤتمر أستانة يحاط بغموض لجهة تفاصيله والقوى المشاركة فيه ولجهة الدول المشاركة، انطلاقا من أن الهدف الروسي والتركي المشترك هو إنجاز عملية انعقاد المؤتمر بمرجعية الطرفين كضامنين لأطراف النزاع. هذا الهدف يبدو متصلا بعنصر محوري هو ترقب موقف الإدارة الأميركية الجديدة التي كان لافتا أن يعلن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب أن الدور الروسي في سوريا، أدى إلى نتائج سيئة ومخيبة للآمال، وهذا الموقف يؤشر على أن الإدارة الأميركية الجديدة لن تذهب بعيدا في مسايرة الموقف الروسي أو التركي في مقاربتهما للأزمة السورية.
 
إزاء هذا الموقف الأميركي الذي يؤشر على شروط أميركية مرتقبة في التعامل مع الأزمة السورية لا تنطوي على تسليم بالمرجعية الروسية في الحل، يمكن مراقبة ما يمكن أن ينشأ من تقاطعات إيرانية – أميركية في الأشهر المقبلة، فإيران التي لم تستطع أن تحدث أي اختراق سياسي في صفوف المعارضة، لا تجد خيارا سوى التمسك بالأسد، وتبدو عاجزة عن التأقلم حتى الآن مع أي مشروع لا يقوم على تثبيت النظام السوري وبرأسه الحالي، وهذا الواقع يعكس إلى حدّ بعيد عجز القيادة الإيرانية عن إنتاج حل لا يكون على حساب نفوذها في سوريا، من هنا تبدو إيران محكومة بخيار استمرار المواجهة ويأتي موقف ترامب الأخير من الدور الروسي، ليعطي فرصة لإيران كي تعيد إنتاج دورها السوري في المرحلة المقبلة، مستفيدة من التباين الأميركي – الروسي من جهة، وإعادة تثبيت نفوذها العسكري في “سوريا المفيدة” بالتطابق والتضامن مع نظام الأسد من جهة أخرى، وفي كلا الحالين الاعتداد دوليا وإقليميا بقدرتها على حماية الاستقرار على الحدود الإسرائيلية الشمالية سواء في لبنان أو في سوريا.
معركة وادي بردى هي رسالة إصرار إيرانية على إنهاء جيوب المعارضة السورية في كامل أراضي سوريا المفيدة، وهي ستعمل على محاولة تحصين دورها ونفوذها في مواجهة التفاهم التركي – الروسي، بالمزيد من توجيه الرسائل الإقليمية والدولية بأنها هي وميليشياتها وبالتضامن مع نظام الأسد من يقرر في هذه المساحة الجغرافية، ويمكن توقع أن كل ما هو غير مستفز لواشنطن ولا لإسرائيل في هذه المناطق ستعمد إلى تنفيذه لا سيما في الجانب المتصل بإنهاء جيوب من تسميهم إرهابيين، سواء في الغوطة أو في ريف دمشق ومن ضمنها وادي بردى، ضمن عملية قضم مستمرة منذ نحو أربع سنوات، وتترافق مع عملية تغيير ديموغرافي واضح المعالم في محافظة حلب وفي ريف دمشق، وشديد الوضوح على امتداد المناطق المحاذية للبنان لا سيما مع حدوده الشرقية.
 
بين مؤتمر أستانة وانتهاك وقف إطلاق النار في وادي بردى برزت الغارة الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مطار المزة العسكري في دمشق، كما أعلن الجيش السوري ولم تتبن إسرائيل القصف الذي استهدف صواريخ استراتيجية سورية. تجاوز التدخل الإسرائيلي العشرين غارة على مواقع سورية ولحزب الله خلال العام 2016، إلا أن الغارة الإسرائيلية بداية هذا العام مثلت رسالة لتثبيت قواعد اللعبة في لحظة اختبار بدت فيه إيران والنظام السوري في موقع حرج إقليميا، علما أنّ العنصر الإسرائيلي في مسارات الأزمة السورية شكل نقطة تقاطع روسي – إيراني منذ بدء التدخل الروسي، أما في لحظة التباين الراهنة بين روسيا وإيران فتبدو تل أبيب متحفزة لمنع تداعيات هذا التباين على أمن حدودها، وهو ما يقرأ فيه المراقبون أن إسرائيل سيبدو حضورها أكثر علانية كلما برز التباين الإيراني – الروسي والعكس صحيح أيضا.