بعد وفاته، تبين للجميع في طهران، خصوصاً المرشد آية الله علي خامنئي، أن الشيخ هاشمي رفنسجاني، كان «حاجة« وليس فقط ركناً أساسياً، أو «الحصن» الذي يحمي «الدولة الإيرانية». ثبت أن رفسنجاني كان «ضابط الإيقاع» للحركة السياسية في إيران، بحيث لا تنزلق أي من الجبهتين نحو التطرف، لأنه في هذا الانزلاق تكمن «السورنة»، التي وسائلها وأدواتها كامنة بقوة، وأن قوى داخلية وخارجية معاً ترغب وبعضها يعمل على أن يقع «الحريق» وينتشر بقوة.
القيادة الايرانية التي تتداخل فيها التيارات ويعمل خامنئي على إدارة مواجهاتها لكي تصب نتائجها مزيداً من المكاسب في خانته، يشعر بعمق الأزمة الناتجة عن الفراغ الكبير الذي فرضه غياب «الشيخ». رأى الكثيرون أنّ غياب رفسنجاني، يكاد يقطع «شرايين» الحياة عن جبهة الأمل من الوسطيين والمعتدلين والاصلاحيين. ليس أمراً
بسيطاً أن يغيب «الحصن» و»المايسترو» (بالتعبير الغربي) في مرحلة متقدمة من المواجهة. ما يعزز هذا الرأي أنّ المرشد الذي يميل، ويكاد يكون ملتزماً بالتيار المحافظ المتشدد، قد أصبح «طليق اليدين» واكتسابه حرية الحركة الكاملة. في جمهورية «الولي الفقيه»، كان الشيخ رفسنجاني وبما يملكه من «شرعية تاريخية ونديّة سابقة ولاحقة وطبيعية قادراً على أن يقول للمرشد: «كلا» ولو بلغة كثيرة التهذيب والطبقات التي تحمل تفسيرات عديدة.
«الحرية المطلقة» التي كسبها المرشد خامنئي تبدو «سيفاً ذا حدّين»، إذا أحسن استعماله قاد إيران نحو برّ الأمان، وإن «أساء قطع به الجمهورية الخامنئية وأوقع الكارثة. من ذلك أن خامنئي إما أن يحافظ على التوازن الداخلي ولا يسمح للمحافظين المتشددين من طينة محمد مصباح يزدي وأحمدي نجاد في وضع يدهما على «الخلافة» وتثبيت نهج عزل المعتدلين والوسطيين وضرب الإصلاحيين، فتكون النتيجة فقدان هذه «الجبهة» للأمل من القدرة عبر اللعبة السياسية التغيير المطلوب شعبياً أي الانفتاح داخلياً وخارجياً ولإعادة البناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، فتلجأ قوى عديدة الى الشارع لتكون هذه المرة «ثورة» خضراء وليس فقط انتفاضة «خضراء»، وإما أن ينفذ خامنئي «سياسة إمساك العصا من وسطها« فيعطي كل طرف حقه، ومن ثمّ لتكون للإرادة الشعبية كلمتها الحاسمة. من الطبيعي أن تكون تباشير هذا التوجه في اختيار المرشد أحد المرشحين الوسطيين لخلافة رفسنجاني في رئاسة مجلس «تشخيص مصلحة النظام»، ومن ثم يكون الامتحان الكبير في إدارة الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وبين هذه وتلك مسألة تندرج حالياً بقوة وهي: هل يعين المرشد «قائم مقام له» فيحسم بذلك مسألة خليفته ويحافظ على الاستقرار؟ خصوصاً انه يتأكد الآن أنه جرت عملية جوجلة مع رفسنجاني للمرشحين لخلافته فبلغوا كما يقال مئة مرشح وأن الرأي استقر أخيراً على خمسة أسماء في مقدمهم حسن روحاني، ومن ضمنهم في اللحظة الأخيرة حجة الاسلام رئيسي الذي عيّنه خامنئي «حاضن الروضة الرضوية» في مشهد.
المتشددون من المحافظين، يكادون يغرقون في يقين غير مبرر واكب وفاة «الشيخ»، أن حسن روحاني أصبح «اليتيم» الكبير بعد غياب «عرابه» رفسنجاني، وأنه سيتم إسقاطه والسماح لعلي رفسنجاني بخلافته، ليكون بذلك «جسراً» ليعبره محافظ متشدد وستظل بولاية محمد مصباح يزدي.
حسن روحاني، كما يبدو استوعب الضربة القاسية التي تلقاها فودّع «الشيخ» الكبير بكلمة قالها بعد زيارة لضريحه، استفاض فيها بذكر صفاته ليؤكد بها استمرارية نهجه، فوصفه بأنه كان «يتمتع بالعقلانية والاعتدال»، وأن نهجه كان «نهج العقلانية والحكمة والوسطية». النتيجة واضحة في هذ الرسالة إلى القيادة بأن «هذا النهج هو الحل لمواجهة استحقاقات أكثرها مجهول«.
لا شك أن التشييع المليوني للشيخ، ومظاهر الحزن في البازار، ووجود الألوف من «الحرس الثوري» بين المشيعين كمشيعين، جسّد أهمية رفسنجاني كنهج سياسي أكثر من أن يكون الأمر تعلقاً بشخصه. الإيرانيون، والقيادة يدركون ان إيران أمام استحقاقات مصيرية، في وقت لا يمكن فيه حالياً إخراج المعلوم من مجهول «السياسة الترامبية». لذلك كل خطوة يقوم بها المرشد بعيداً عن تصريحات عسكرية تتجاوز في تصعيدها الكلامي تصريحات أحمد سعيد، لها حسابات مباشرة ولاحقة. بالتأكيد إيران لا تريد إلغاء الاتفاق النووي ولا المواجهة مع واشنطن. ماذا يمكن للمرشد أن يقول للإيرانيين بعد أن وصلت طائرة الـ«ايرباص» الأولى إلى طهران ودخلت في الخدمة والتي ستلحقها نحو مئتي طائرة من «البوينغ« والـ«إيرباص« نفسها إذا عادت المقاطعة؟ من الصعب إقناع «جائع» بمقاومة «الجوع» بعد أن تذوّق هذا «الصحن» الواعد بالكثير مثله؟
ما يجبر المرشد على القراءة «المعمّقة» للتوجهات الشعبية، الهتاف الغريب وغير المسبوق شعبياً في إيران وهو «الموت لروسيا» الذي تصاعد أثناء تشييع رفسنجاني. هذا الهتاف وهو الأول من نوعه رفض شعبي إيراني لسياسة التحالف العميق مع روسيا، أي في الأساس رفض لرفض المصالحة مع الولايات المتحدة الأميركية.
تيقن المرشد أن «خاصرة» إيران ضعيفة أمام الرئيس دونالد ترامب انه بدأ يتجه نحو تنفيذ سياسة تطويقية تحمي هذه «الخاصرة». إعلان الجنرال علي شامخاني رئيس «مجلس الأمن القومي« ان بلاده ترفض تقسيم أو ضرب الاستقرار والنظام في السعودية «يؤكد خوف إيران من ارتدادات سياسية لاحقة على الداخل الإيراني ووحدة إيران. هذه القناعة المعلنة وليست المستجدة تؤشر إلى وعي قائم بأن لا أحد يلغي أحداً وأن التحالف مع روسيا يجب ألا يكون على حساب المحيط الجغرافي خصوصاً أن مصلحة روسيا فوق أي مصلحة للحلفاء.
يبقى «الحرس الثوري» الذي يقال بكثافة انه سيضع يده لاحقاً على السلطة، ويعين او يختار الخليفة الذي يناسب مصالحه، فإن مصلحة «الحرس« في عدم العودة إلى التشدد والانغلاق الخارجي. لأن أي تراجع في بيع النفط الإيراني، سيكون كارثياً. «الحرس» كسب نشر نفوذه عندما كان سعر البرميل قرابة 140 دولاراً، أما الآن وسعره لا يتجاوز الخمسين دولاراً، فإن أكثر ما يستطيع فعله هو الإمساك بالفتات من العائدات. ما يعزز ذلك ان «الحرس» في تكوينه أقرب إلى التكوين الشعبي بكل تردداته وانفعالاته من الجيش، لأن افراده لا يخرجون من مجتمعاتهم ولا أعمالهم ولا تنظيماته إلى جانب تعدد «التقليد» للمراجع وعدم أحاديته.
متابعة فترة السماح الترامبية التي تمتد مئة يوم بكل تفاصيلها وقراءة المتغيرات واليوميات داخل «كرملين» طهران الذي يضم مقر المرشد ورئيس الجمهورية ورئيس القضاء ومجلس الشورى، لمعرفة تفاصيل الحبكة الأخيرة في حياكة «سجادة» النظام.