..وفي السنة السابعة، كان كل شيء قد ضاع، ولم يبق سوى مكتسبات متواضعة تحققت، وتهديدات متعاظمة تقدمت، وذكريات حافلة تهاوت من جيل كامل بات اليوم موزعاً بين المقابر والمنافي والسجون.
لكن الفشل لم يكن تاماً ولن يكون. ما تحقق في تونس ومصر وسوريا واليمن، وحتى في ليبيا، بسيط جدا في المعايير التاريخية، وهو أقل بكثير من الطموحات الكبرى التي أخرجت ذلك الجيل الى الشوارع، بل يبدو وكأنه ردة الى الخلف، الى ما قبل العام 2011، التي تستحق ان تستعاد وان تذكر، لا ان تصبح نسياً منسياً، او ان تلقى على كاهلها وحدها مسؤولية الفوضى اللاحقة، والعنف المنفلت.
في الدول الخمس، كما في بقية البلدان العربية، تعرضت الفكرة الدكتاتورية لضربة حقيقية، كادت أن تنهيها فعلاً. قبل سبع سنوات لاحت في الافق العربي، تجربة مشابهة لثورة أوروبا الشرقية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.
اليوم، يبدو ان الوعي ترسخ اكثر من العام 2011 بان الاستبداد ليس قدر العرب ولا هو قاعدتهم الوحيدة، بل هو إستثناء، وعيب، بل وإهانة لأمة وشعوب كاملة تُوسم بأنها غير مؤهلة للديموقراطية وغير صالحة لممارستها. في الدول الخمس، ثمة تسليم، حتى في اوساط الاستبداد ومريديه، بان الحكم الابدي قد أهتز بقوة، ولم يعد الحاكم مكلفاً بتسليم السلطة الى ملاك الموت وحده.
ثمة إعتراف ضمني أيضاً بان هناك حاجة دائمة الى التغيير، الى شكل من أشكال التناوب على السلطة، الى إلتزام عام بصناديق الاقتراع وما تفرزه من تعديلات، مهما كانت طفيفة. في تونس التي إحتفلت بالامس بذكرى نجاح ثورتها ، والتي كانت ولا تزال التجربة الانجح والاهم، لان مؤسستها العسكرية كانت أضعف وأبعد عن السياسة من مثيلاتها في بقية البلدان العربية، ولأن حركتها الاسلامية كانت أوعى وأنضج من شبيهاتها في بقية البلدان العربية، اكتسبت صناديق الاقتراع إحتراماً وزخماً إضافياً يكاد يكون مساوياً للصناديق التي تفتح في مختلف البلدان الديموقراطية، مستجيبة بذلك لتطلعات الحركة الشبابية التي أطاحت بالرئيس السابق زين العابدين بن علي.
في مصر، كانت المؤسسة العسكرية ولا تزال هي الحزب الاقوى والاعمق والاوسع انتشاراً، التي استطاعت ان تجهض تجربة ديموقراطية فتية، بحجة إحباط حملة اسلامية مثيرة للجدل، والتي تعتمد اليوم سلوكيات إستبدادية غابرة، تفضح إهتزاز ثقتها بنفسها وبجمهورها، وتكشف ان مندوبها الحالي في الحكم لم يعد نافعاً: لا يمكن لأحد، لا في مصر ولا في خارجها ان يتصور بان الرئيس عبد الفتاح السيسي مثلا يستطيع ان يبقى في الرئاسة اكثر من ولايته الحالية.
ولا يمكن لأحد ان يجزم بان الجيش المصري الذي بنيت الدولة المصرية لخدمته وطاعته سيظل قادراً على البقاء في واجهة السلطة. ثمة حاجة تفرضها قوة الامر الواقع لتسليم الدولة الى المدنيين، من أجل إحتواء مشكلات الاجتماع والاقتصاد وحتى الامن، بجدول اعمال مدني بالمعنى الكامل للكلمة. في سوريا، ما زالت المؤسسة العسكرية تقاتل بضراوة، وتستند الى تحالف قوي يخوض معاركها مباشرة.
لكنها في قرارة نفسها تعرف الان اكثر من اي وقت مضى ان بشار الاسد لم يعد رئيساً الى الابد، ولن يكون بامكانه توريث الحكم الى بِكره حافظ. وهي تستعد للحظة الذي ستضطر فيها الى رعاية عملية انتقال سياسية مرتقبة بعد خمس سنوات او أقل..حسب مشيئة الحليف الروسي القوي، او نصيحة الشريك الايراني، او رغبة المراقب الاميركي او الاوروبي.
في اليمن ، ما زالت المؤسسة العسكرية تقاوم الحاجة الى تلك العملية الانتقالية التي تزيح الرئيس علي عبد الله صالح وحلفاءه من الحكم، وتخوض بطريقة محنكة، معركة تأليب العصبية اليمنية ضد الخليجيين، وتستدعي لذلك حتى الايرانيين، دفاعاً عن موقعها في السلطة وعن دورها في الدولة. لكن قادة تلك المؤسسة باتوا يدركون أكثر من غيرهم أيضا ان العناد في حماية علي عبد الله صالح لم يعد مجدياً لا لصون الوطنية اليمنية ولا حتى لترميمها.
في ليبيا، أسفر سقوط معمر القذافي عن إنهيار تام للدولة الصوَرية التي شكلها حوله، لكن أحداً من ورثة تلك الدولة يريد العودة الى الوراء، او يتمنى البقاء في الصراع، برغم عوامله المتراكمة، وآخرها تقدم فلول المؤسسة العسكرية نحو سد الفراغ ومحاولة إنتزاع السلطة من الثوار الذين كانوا يكافحون على جبهات أخرى، جبهة منع تسلل التنظيمات الاسلامية الأشد تطرفاً وخطراً الى بيئة الثورة، وجبهة توحيد مشروع التغيير وبلورته.
كان حكام الدول الخمس يعلنون ان التاريخ ينتهي عندهم، فإذا به يحكم عليهم بالخروج من فصوله: إنجاز متواضع جداً لا يكفي للاحتفال بالذكرى السنوية السابعة، لكنه يبرر الادعاء ان ثمة وعياً عربياً جديداً قد تشكل، وهو ينفي فكرة الطغيان الازلي والتوريث القدري، وربما يطوي صفحة الاسلام السياسي الذي قدم في السنوات السبع الماضية أسوأ ما عنده من نماذج ومشاريع وسلوكيات منفّرة. الثمن كان باهظاً، ولا يزال، لكن العودة بالذاكرة الى ما قبل العام 2011، لم تعد مغرية لأحد.