يعتبر الشعب السوري من اكثر الشعوب التي تحمل موروثا اخلاقيا مطبقا في الحياة اليومية ذلك انه يستمدّ ذلك من عديد المصادر على رأسها الدين الاسلامي الحنيف ثم الدين المسيحي ثم حضارة مستقرة تمتد عميقا في التاريخ لأكثر من اثني عشر ألف سنة تكرّسه المدن السورية الاربع التي تتنافس على لقب اقدم مدن الدنيا دمشق وحلب وحماة واللاذقية.
لطالما كان الاسلام في سوريا اسلاما وسطيا (استخدام المصطلح هنا لا يعني الموافقة عليه ولكن لتقريب الفكرة) بفضل علماء الشام الافاضل الذين حافظوا على الدين الاسلامي السمح في العقول والقلوب من خلال ممارسات حياتية يومية كان الدين الاسلامي في صُلبها. فلم يكن من المستغرب ان لا تجد في سوريا جائعا او عاريا او مشردا ذلك ان منظومة العمل المدني على مستوى الحارات والمساجد كانت اسرع من هذه الظواهر بخطوة فكانت تعالجها قبل حتى ان تحدث من خلال مفهومي الزكاة والصدقة الاسلاميان الذين حافظا على تماسك المجتمع السوري.
كذلك كان المجتمع السوري معروفا بانعدام البطالة فيه فالجميع لا بد له من العمل حيث كانت الغالبية تعمل في الزراعة بينما عمل ابناء المدن في التجارة والصناعة فكان مفهوم المجتمع المنتج القادر على الحياة اعتمادا على امكاناته الذاتية مما جعله مجتمعا قويا مقاوما للتداخلات الخارجية. لم يكن التعليم اولوية في المجتمع السوري الا بحدوده الدنيا عن طريق الكتاتيب التي كانت تدرّس علوم اللغة العربية والعلوم الشرعية الاسلامية بالاضافة الى مبادئ علوم الرياضيات وهي الامور الاساسية التي كانت تناسب الجوّ العام للمجتمع وتخدم توجهاته. هذا الامر لم يمنع من تأسيس المدارس والجامعات والتحاق الشباب بها بقوة وخصوصا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي إبّان الاحتلال الفرنسي لسوريا حيث تعتبر جامعة دمشق المؤسسة عام 1920 من اوائل الجامعات على مستوى الشرق الاوسط ساهمت مع عدد كبير من المدارس في تشكيل جيل واع مثقف قاد فيما بعد عمليات التحوّل التي شهدها المجتمع السوري في مراحل متعددة لاحقاً.
إقرأ أيضًا: المصالح المتنافرة في سوريا
نتيجة لكل العوامل السابقة وغيرها اصبح المجتمع السوري مجتمعا اخلاقيا بشكل كبير واستطاع ان يحافظ على هذا النمط الاخلاقي خلال عهد الاستعمار الفرنسي وفي مرحلة الاستقلال وصولا الى دولة الوحدة.
شهد المجتمع السوري الهزّة الاولى لأخلاقياته في عهد دولة الوحدة مع مصر بقيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي فرض على سوريا حكما امنيا لم تألفه بهذه الفظاظة من قبل حيث سادت الاعتقالات التعسفية والاجراءات الطارئة اضافة الى اشكالية التأميم فمجتمع عامل كالمجتمع السوري حصل فيه اغلب الملاك والصناعيين على مكاسبهم نتيجة لعمل دؤوب من اجدادهم وصولا اليهم (باستثناء الملاك الحاصلين على المكتسبات نتيجة اعطيات الولاة العثمانيين) لا يمكن فيه ايجاد تغيير جذري في وسائل الانتاج وملكيتها. فكان ان امّم عبد الناصر كل شيء من اراض ومصانع وخدمات وبنوك مما اضطر نسبة جيدة من السوريين لترك بلادهم والبحث عن اوطان جديدة آمنة لهم ولأملاكهم الامر الذي أدّى الى تكوين طبقة برجوازية في المجتمع السوري عمادها المستفيدون من قانون التأميم ممن شعروا ان لهم افضلية ما على حساب باقي اخوانهم السوريين. بالاضافة الى ذلك فقد كان تطبيق الاشتراكية في سوريا وبالا آخر عليها فالاشتراكية وكما اثبتت كل تجاربها في كل بلاد الدنيا تحمل في طياتها تضخما وترهلا اداريا وتفتح ابوابا واسعة للرشوى والمحسوبية لانعدام آليات الرقابة والمحاسبة وتفقير الجميع وجعل الجميع بحاجة للمال ما يؤدي الى سهولة تبادل الخدمات مقابل المال وهو ما جعل سوريا تعرف الرشوى على نطاق واسع للمرة الاولى ولكن رغم ذلك كان فعلا مداناً على المستوى الشعبي هذا بالاضافة الى عملية السرقة من المال العام التي عرفتها سوريا للمرة الاولى في عهد عبد الناصر.
في العام 1963 استطاع حزب البعث العربي الاشتراكي الوصول للحكم بعد انقلاب عسكري قاده الحزب أسماه فيما بعد ثورة الثامن من آذار وفي حكم حزب البعث على مدار خمسين عاما عرفت سوريا الهاوية الاخلاقية الكبيرة في مسيرتها وقد كان ذلك عملا ممنهجا من قبل الحزب فأفكار الحزب اضافة الى مصالح قادته ومصالح الدول التي اتت به ودعمته للوصول للحكم كانت تفترض هكذا عملية تدمير للبنى الاخلاقية في المجتمع رويدا رويدا للوصول الى المجتمع المهزوم القابل لوجود اسرائيل آمنة الى جواره والعامل على تحقيق مصالح الاخرين برحابة صدر دون مقابل والراضي بسرقة كل ما يملكه من قبل حكّامه والدول الاخرى بدون اي ردة فعل.
عمل حزب البعث منذ وصوله الى الحكم على خطة بدى انها موضوعة مسبقا تستهدف تدمير المجتمع السوري باستهداف عامل قوته الاهم و هو المنظومة الاخلاقية فكانت اجراءات الحزب الهادفة الى السيطرة على مفاصل المجتمع السوري كافة وربطها جميعا بالحزب فقام بانشاء منظمة طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة واتحاد طلبة سوريا والاتحاد النسائي والاتحاد الرياضي العام وغيرها الكثير من المنظمات والاتحادات ذات الاتصال اليومي والمباشر مع الشعب وبثّ من خلال هذه الكيانات افكار الحزب وراح يعمل من خلال اللاوعي على تكوين جيل راضخ موال قابل لكل افكار البعث مستعد للموت لاجلها الامر الذي جعل الانسان السوري اقل تمسكاً بمنظومته الاخلاقية شيئا فشيئا وانحدر التزامه الديني تدريجيا نتيجة للحرب الهادئة التي خاضها الحزب تدريجيا على الاسلام في ذات الوقت الذي اعتزلت فيه النخبة السياسية والاقتصادية والثقافية في دمشق وحلب والمدن الكبرى العمل العام واختبأت في نطاقاتها الضيقة في محاولة على ما يبدو للحفاظ على المنظومة الاجتماعية المحافظة والحفاظ على ما بقي من رؤوس أموالحتى ولو بطريقة القبول بالقادم الجديد وتقديم فروض الطاعة والدخول في لعبته الفاسدة عبر تغذيتهم لمفهوم الرشاوي.
إقرأ أيضًا: خطوط تماس بين الروس وحزب الله
في العام 1970 قاد حافظ الاسد انقلابا عسكريا ضد رفاقه في الحزب وامر باعتقالهم او قتلهم ما ادى الى احكام قبضته على الدولة السورية من خلال انتخابه رئيسا في العام 1971 وفق دستور جديد كُتب على مقاسه ومقاس حزبه كرّس حزب البعث كقائد للدولة والمجتمع بالقانون ما ادى الى شرعنة اي حرب قادمة على المخالفين.
عُرف حافظ الاسد بقدرته الهائلة على السير وسط حقول الالغام سواء داخليا او اقليميا او دوليا ولربما كان هذا احد اهم اسباب تمسك الشرق والغرب به كضابط للتوازنات في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
راح حافظ الاسد في بداية حكمه يقرّب علماء الدين السنة وخصوصا في دمشق وحلب فتكوّنت لديه حاضنة اسلامية سنية تدافع عنه في وجه منافسيه الابرز تنظيم الاخوان المسلمين كما قام بحشد رجال المال والاقتصاد من حوله ليكوّن حوله حلقة اخرى تنافح عنه وقت الازمات بالاضافة الى سيطرته على الاعلام والجيش والامن ليمسك بذلك بمفاتيح البلاد من بابها لمحرابها دون اي رادع او معارض فعّال.
بدأ حافظ الاسد عملية غسيل الدماغ على الشعب السوري باكرا من خلال تكريس شخصه بالالقاب فهو الرياضي الاول والعامل الاول والمعلم الاول وغيرها عشرات الالقاب واضعا تيتو مثاله الاعلى الذي لا يخفي اعجابه به وبتجربته الدكتاتورية بالاضافة الى الاغاني التي تمجّده والاحتفالات التي تقدسه فكانت هذه الفترة ضربة قوية لاخلاقية الشعب السوري الذي لم يعرف التقديس القسري سابقا على هذا النطاق الواسع بالاضافة الى عملية التفقير نتيجة التطبيق الجائر للاشتراكية والتأميم ما ادى الى تشكل شعب كامل من الفقراء الذين يلبسون اللباس الموحد وتحتوي بيوتهم على الاشياء ذاتها التي تبيعها مؤسسات الدولة والذين يحملون الافكار ذاتها التي تذيعها الاذاعة والتيليفزيون الحكومي وكل املهم وهدفهم في الحياة ارضاء اجهزة الامن والحكومة والقائد ما أدى لقتل الطموح و روح المبادرة لديهم حتى وصلنا الى مرحلة تشعر فيها ان الشعب السوري رجال آليون يعملون لخدمة القائد.
كان ابرز المستفيدين من هذا الوضع هم عائلة حافظ الاسد وطيف من طائفته العلوية بالاضافة الى قلّة قليلة من المستفيدين من الطوائف الاخرى ليكرّس الاسد بذلك مشكلة جديدة للمجتمع تتمثل بالطائفية التي عززها من خلال ادخال طائفته في الامن والجيش وتقليدهم المناصب الكبرى في البلد وفي الجيش و الامن ما خلق نوعا من الكراهية التي تحتجب خلف قناع الخوف بين عامة الشعب وبين هؤلاء اضف الى ذلك العقلية الاستخبارية التي كانت تدار بها البلاد حيث كانت كلمة واحدة او نكتة واحدة كفيلة بحبسك وتعذيبك مدى الحياة ما كرّس الخوف في قلوب الناس فصار الاخ يخاف من اخيه والجار من جاره اضف الى ذلك اتساع السرقة من المال العام من قبل المحيطين بالاسد ما كوّن طبقة جديدة من الاثرياء الجدد جلّهم من العلويين مارسوا في سبيل ذلك كافة انواع الموبقات والمحرمات الوطنية من سرقة للآثار والنفط وتجارة للمخدرات والسلاح والدخان وغيرها الكثير اضف الى ذلك الرشى والمحسوبيات التي انتشرت بشكل سرطاني في كافة مفاصل الحياة حتى اصبحت هي القاعدة والشرف استثناء.
في العام 2000 تولى بشار الاسد السلطة خلفا لوالده المتوفي بعد تعديل لدستور والده ب5 دقائق ساهمت كل اجراءات والده آنفة الذكر في قبول الشعب لهذه الاهانة دون ان ينبس ببنت شفة بل على العكس ظهر الامر حينها و كانما هنالك مطلبا شعبيا حقيقيا بذلك.
حاول بشار الاسد ان يضع بصمته على منظومة الاخلاق السورية فكان ان فتح سوريا (الغير مستعدة) لأنماط حياة اكثر انفتاحاً فأعاد البنوك الخاصة وادخل الاتصالات الخليوية والانترنت بكثافة وغيرها الكثير ولكن في المقابل كان ذلك كله يتم من خلال شركاته وشركات حلفائه من التجار بواجهات بات الجميع يعرفها ابرزها رامي مخلوف ومحمد حمشو وغيرهم الكثير.
في عهد بشار الاسد بات مقبولا ان يسرق مدير عام اموالا ضخمة دون محاسبة لكونه علويا او لكونه يدفع رشاوي للمدير الاعلى, كما بات مقبولا لدى السوريين ان يتم انتخاب عضو في مجلس الشعب شعاره الانتخابي (خود بوط و هات صوت), كما اصبح من المستساغ ان ترى شخصا يأكل ويشرب في الشارع خلال شهر رمضان المبارك, او ان ترى شخصا يشرب الخمر في الشارع جهارا في شهر رمضان المبارك, بات مقبولا ان تصبح الراقصة او الفنانة اشهر من العلماء وتُقصد حفلاتها اكثر مما تُقصد مجالس العلم, اصبح من مسلّمات الحياة ان النجاح بالجامعة يحتاج دفع رشى للدكتور او علاقة جنسية في حال كانت طالبة جميلة, بات من طبيعة الحياة انك لا بد ان تدفع رشوى لتبني بيتا تزوج فيه ابنك, او ان تدفع رشوى لتبيع مواد غير صالحة للاستهلاك البشري, او ان يموت شخص في مستشفى نتيجة الاهمال ولا يحاسب المشفى او الطبيب, بات مقبولا ان تخالف قانون السير مقابل مبلغ تضعه في يد رجل الشرطة, بات مظهرا للقوة ان تستغل بمالك عناصر الشرطة للاستقواء على الاخرين, اصبح مناسبا ان تشبّح على الناس لمجرد انك تعرف ضابطا في الامن, بات امراً سلساً ان يحتار العميد كيف يرضي الرائد فقط لانه علوي ولديه القدرة على اذيته نتيجة قراباته او معارفه, بات سهلا ان ترى مديرا عاما في عمر الثلاثين لا يملك اي خبرة وترى تحته الخبرات الهائلة التي يتحكم بها ويديرها على هواه لا بمقتضى المصلحة لمجرد انه علوي او يملك مالا يؤهله لدفع رشى لمن هم اعلى, بات متعارفا عليه ان روّاد المساجد سيئون والسائرون لصلاة الفجر متطرفون ومطلقوا اللحى وحافّوا الشارب ارهابيون, بات لفظ اخوانجي مرادفا لكل مصلي, باتت المحجبة متخلفة والراقصة منفتحة, بات من الحكمة لدى السوريين ان لا يُسعفوا شخصا يتلوّى في الشارع لأن ذلك سيعرضه للحبس, اصبح السوري يخاف من مساعدة غيره كي لا يتم اتهامه بتمويل الارهاب او لا يتم اتهامه بمحاولة الصعود فوق المستوى المرسوم له, بات تعذيب اجهزة الامن وقتلها قياما بالواجب الوطني وعلى الشعب ان يشكرهم على ذلك, بات ان تكفر بالله علانية امتيازا وقيمة مضافة لك امام اجهزة الامن, باتت الصلاة في الجيش منكرة وسببا للمحاسبة, كما بات شرب الخمر احد اهم الشروط المطلوبة للترفيع في الجيش, بات التلاعب بمصير الوطن وارتهانه لدول اجنبية حكمة كبيرة من القائد الملهم, بات الصمت والذل بمواجهة ضربات اسرائيل للمواقع العسكرية والسيادية السورية سياسة عليا وحكمة مابعدها حكمة, بات ملايين السوريين يفرّون من بلادهم باحثين عن عمل في اصقاع الدنيا ورغم ذلك هم مطالبون طوعيا بتقديم فروض الطاعة من مغترباتهم حتى اصبح الغائب عن الوطن لمدة 10 سنوات متّهما بكل انواع التهم واصبح مقبولا لدينا ان نخشى محادثة اي شخص غاب عن الوطن عشر سنين رغم اننا في الغربة.
في دولة بشار الاسد اصبحت هذه هي المنظومة الاخلاقية للسوريين وهكذا يعيشون.