هذا وقت يتيح، نظرياً، مناقشة كل شيء في الصحافة اللبنانية. فحالتها كحالة رجل يتعرض لأزمة مالية فتنكشف كل جوانب حياته بسببها وتتحول إلى أزمات خاصة ومعلنة!
الهشاشة تستسقي الهشاشة.
هذه لحظة خطرة في الصحافة اللبنانية ليس فقط بسبب خسارة الوظائف المريعة في قطاع جدي وحقيقي تقليديا من الطبقة الوسطى اللبنانية ولكنْ أيضا بسبب الانحلال الأخلاقي الذي يمكن أن يرافق ويفاقم علاقات الصحف ببعضها بعضا بشرا وحجرا ومؤسساتٍ ومعايير.
لا أعتقد أن الطبقة، أو "الطبقات" السياسية اللبنانية، حزينة، عكس الادعاء، بفعل هذه اللحظة الكارثية في الصحافة... على الصحافة اللبنانية. فالصحافة لم تكن يوما خارج سيطرة سقف أو سقوف مراكز القوى السياسية بل هي تابعة على مستويين دفعة واحدة: تابعة للمال السياسي الخارجي وتابعة لعملاء مصادر المال السياسي وهم الطبقة السياسية اللبنانية. لكن ومن ضمن هذه البنية كانت في الصحافة اللبنانية، ولا تزال، جاذبية "استقلالية" ما، جاذبية لا تحصرها السياسة ولا تلفظها الثقافة والاجتماع والاقتصاد. كانت الصحافة "العميلة" قوة رقابة أيضا على السياسيين بالمعنَيَيْن: التوازني الديموقراطي والابتزازي اليومي.
لا تنوعٌ إلا وفيه بنيةٌ "استقلالية"، يسمونها هوامش وأسمّيها متوناً. وكان فيها ولا يزال جواذب الغنى الثقافي والتعددي لبلد "أنشأته" بالنتيجة جامعتان ولدتا قبله، أي ساهمت بإنشائه في لحظة استفادة من الصراع الدولي، النخبةُ المحلية التي خرجت من هاتين الجامعتين اليسوعية والأميركية. أعرف بلدانا كثيرة فيها صحافة قوية أو كانت قوية ولكني لا أعرف سوى بلد واحد جرى تأسيسه عبر المدارس والجامعات بين القرن السادس عشر حتى عام 1920. وحتى لمن يريد أن يحفظ لغته اليسارية يمكنه القول أن الغرب الاستعماري أنشأ لبنانَ أساسا عبر شبكةٍ ضخمة من المدارس والجامعتين. ولكن هذا موضوع آخر ولو كان، في العمق، متصلا.
دعونا لا ننسى الأساسيات أو أساسيات:
مع أني أكره، نعم أكره وليس فقط لا أستسيغ، هروب البعض في الصحافة اللبنانية السريع للحديث عن أزمة الصحافة العالمية، وهي بمعايير العالم المتقدم اليوم ليست فقط أزمة صحافة ورقية بل أيضا ومنذ البداية أزمة صحافة ديجيتالية، مع ذلك لا بد من أن هذه الأزمة تطال:
أولاً: الصحافة اللبنانيةَ سواء في جزئها النشِط أو في جزئها الكسول، الذكي أو المِِدْيوكْر.
وثانيا: تطال علاقة الصحافة اللبنانية بالطبقة أو "الطبقات" السياسية اللبنانية. هنا لدينا خصوصياتنا في الفساد (الأيديولوجي أيضا) والنظافة، فإلى جانب أساطير الفساد غير المفصول عن الفساد السياسي أريد أن أحيّي عشرات الصحافيين، الذين حافظوا على صلة مالية وانتاجية وابداعية (نعم ابداعية) بالمهنة دون أن تمسهم صورة الصحافي - الشحاذ وإنما صنعوا بأشكال مختلفة صورة الصحافي المحترَم (ولا أجد كالعادة، في فقر اللغة، تعبيرا آخر واقعيا).
اليوم، اليوم نعم، تطرح في العديد من البلدان أزمة علاقة الصحافة، سمِّه الإعلام، بالطبقة السياسية المحلية.
الأكثر ضجيجا حاليا هو السجال الأميركي الذي يثيره الحدث غير المسبوق بانتخاب ودلالات انتخاب شخصية خلافية وخطرة هي دونالد ترامب. لكن هذا الموضوع على خصوصيته الأميركية الهائلة، لأن الولايات المتحدة "دولة إعلام"، هو جزء من مناقشة تطورات أزمة النظام السياسي الانتخابي الأميركي. هناك رئيس منتَخَب في أميركا يكره الصحافة. أي علاقة ستولد بل أي رئيس سيدير أي حياة سياسية داخلية وخارجية؟ هذه مسألة ستحددها الأيام المقبلة وربما بل ربما سريعاً ستحدد مصير هذا الرئيس: هل يستطيع أن يُكْمِل؟
البلد الآخر هو إسرائيل عدوتنا و"قدوة" مسافاتنا. فاليوم وكل يوم حاليا تنطرح في الصحافة الإسرائيلية عبر التحقيق مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مسألة علاقة السلطة بالإعلام. هناك وجه بل وجوه فساد يجري البحث فيها وإنما أيضا هناك وجوه تتعلق بمعايير الأداء الديموقراطي وقد تخدم الديموقراطيةُ الإسرائيليةُ أعداءها العرب والمسلمين فتُسقِط أحدَ أشرسِ وأخبثِ حكام إسرائيل وأكثرهم أذىً للفلسطينيين منذ تأسيسها عام 1948 وهو بنيامين نتنياهو.
من مفارقات المرحلة أن الدولة اللبنانية، والأدق القول النظام السياسي اللبناني، لا يملك أجوبة على أزمة الصحافة اللبنانية. دعكَ من بعض المبادرات المحكومة بالشكلية فإن النظام يتفرّج على مسار ومصير الصحافة اللبنانية كما لو أنهما غير مرتبطَين إلا ثانويا بمصيره. بل الأنكى أن السياسيين، حتى الذين يستثمرون أموالا ناجحة في بعض الصحف وأهدروا أموالا فاشلة في صحف أخرى يعتبرون "الوضع الإقليمي" هو الوضع الذي لا يمكن حل أزمة الصحافة الحالية من دونه.
أقترِح بسبب البعد الوطني (على كل هلامية كلمة "وطني" في لبنان) أن ينتقل التفكير - ولا أريد أن أقول المعالجة - إلى استنفار جامعي - في الجامعات المحترمة - يدرس ويواكب الوضع الصحافي المأزوم.
السؤال الجوهري كما أراه الآن:
كيف سيتمكّن الجيل الجديد اللبناني، من قطاعات مختلفة، أن يحوِّل هذه الأزمة من نكبة ديموقراطية ووظيفية واجتماعية إلى فرصة لصحافة جديدة؟
في مصر حافظت الحاجة الوجودية للدولة، كقوة منع انهيار الكيان والمجتمع، على "صحافة الدولة" رغم اختراق العولمة ورساميل القطاع الخاص لاحتكار القطاع العام التاريخي للصحافة منذ سقوط العهد الملكي. لكن هل "الصحافة القومية" هي قوة رجعية أم قوة تقدُّم في مصر وهل قوتها تأتي من نفسها أم من حاجة الدولة الأمنية والسياسية والتعبوية في التحديات الجديدة للبقاء؟
في تركيا هجمت السلطةُ بشكل غادرٍ على الصحافة - المتقدمة رأسماليا - إلى حد إلغاء قطاعات منها في المكتوب والمرئي. إذن في تركيا الأزمة مختلفة: بكل بساطة الاستبداد يدمِّر ليس فقط استقلالية الصحافة بل وجود معظمها نفسه. يدمِّر معها "المعنى" التركي الأعمق في الحداثة. ويعيدها دولة طغيان تقليدي في العالم المسلم الضعيف هنا والمنهار هناك.
أسوق هذا المثال لأطرح السؤال الخطير بل غير الانساني ربما:
هل صارت الصحافة اللبنانية قوة رجعية في المجتمع اللبناني أم يمكن بعد إعادة تحويلها إلى قوة تقدم تعكس غنى البنية اللبنانية؟
الجيل الجديد في الصحافة اللبنانية كيف سيتقدم على ركام إنجازات وخيباتٍ باتت عريقة وأكثر التباساً؟
أنا متفائل داخل الفاجعة.