رحل عام 2016 طاوياً معه قرناً على ولادة اتفاقية "سايكس-بيكو" (1916) الشهيرة التي حدّدت معالم المنطقة العربية، وقسّمت الشرق الأوسط بشكل رئيسي إلى مناطق نفوذ بين فرنسا وبريطانيا.
ووضعت المنطقة على سكّة جديدة بعد انهيار السلطنة العثمانية، وأعطت للمنتصرين في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى أكثر من "جائزة ترضية" على شواطئ المتوسّط. حصل ذلك، قبل أن يستلم الأميركيون المنطقة من حلفائهم التقليديين بعد الحرب العالمية الثانية، ويزداد نفوذهم فيها بعد نهاية الحرب الباردة. وها هو فلاديمير بوتين يبدو مستعجلاً للانتقام لروسيا القيصرية ودفن هذه المعاهدة.
بدأت المفاوضات حول الاتفاقية في مدينة سانت بطرسبورغ الروسية في بداية ربيع عام 1916 قبل أن يتم التوقيع عليها في أيار السنة نفسها. لكنّ انسحاب روسيا من الحرب العالمية الأولى سنة 1917 سمح لباريس ولندن بتعديل الاتفاقية لصالحهما، بعد أن كان نص الاتفاق الأساسي يعطي القسطنطينية ومضيقي البوسفور والدردنيل لموسكو.
بعد مائة سنة على الاتفاق، لا تبدو روسيا في وارد تكرار الخطأ القديم، وإبعاد نفسها عن المنطقة. بل على العكس، تلعب، هذه المرّة، الدور الأساسي في الحسم العسكري، وتقود المفاوضات السياسية تمهيداً لرسم حدود النفوذ الجديدة لصالحها.
يعتبر الضابط السابق في "كي. جي. بي"، بوتين، أنّ سقوط الاتحاد السوفياتي كان بمثابة الكارثة الكبرى على روسيا وعلى العالم. وكان ينظر بشيء من سوء الظن إلى سلفه بوريس يلتسن، وكذلك الأمر إلى الزعيم السوفياتي السابق، ميخائيل غورباتشيف، اللذين سمحا برأيه للولايات المتحدة بالتفرّد بحكم العالم.
وفي وقتٍ يتفرّج فيه أوباما على ما يجري في الشرق الأوسط، من دون أن يملك رؤية واضحة حتى للمصالح الأميركية، تاركاً الساحة لخلفه دونالد ترامب، صديق بوتين والمنشغل بـ"تغريداته" على "تويتر"، يكاد بوتين "يغرّد" وحيداً على مسرح الشرق الأوسط، لكنه يقود سرباً من الدول الإقليمية التي تحابي القوة الروسية، من أجل أن تحظى ببعض دوائر نفوذ لها على الخريطة المقبلة.
كانت تركيا أوّل من استشعر أن موازين القوى تتغيّر في المنطقة، فسارعت إلى إعادة ترتيب علاقتها مع روسيا، لكي تعيد تعديل حدودها، وفي بالها هاجس واحد: التخلّص من إمكانية قيام دولة كردية على حدودها. وتستعين أنقرة بالتاريخ أيضاً لكي ترسم أهدافها المستقبلية. استطاع كمال أتاتورك فرض شروطه على اللاعبين الكبيرين بعد الحرب العالمية الأولى، فاستردّ من فرنسا منطقة كيليكيا، بعد أن تخلى البريطانيون عنها. كذلك، تمكّن أتاتورك من استرداد جنوب غرب الأناضول الذي كانت اتفاقية ملحقة ب"سايكس-بيكو" قد أعطته للإيطاليين.
تداول نشطاء أتراك، في أيلول الماضي، على مواقع التواصل الاجتماعي، خريطة جديدة لتركيا تضمّ مناطق في شمال سوريا والعراق (محافظة حلب وإقليم كردستان). وكتب "المغرّدون" أنّ هذا هو الحل الأنسب لتركيا. وقد تكون هذه التغريدات معبّرةً عن وجهة نظر لدى فئاتٍ محدودة داخل المجتمع التركي. لكن، لا يُستبعد أيضاً أن تكون محاولة "جس نبض" رماها حزب العدالة والتنمية، ليلتقط إشارات مختلفة حول القبول المحلي والخارجي لهذا الموضوع.
يؤكد ما يحدث حالياً في منطقة الباب السورية فرضية أن تركيا مصمّمة على وضع قوانين أمنية خاصة بها، وصولاً إلى تغيير حدودي محتمل. فأنقرة اتهمت، أخيراً، التحالف الدولي بدعم جماعات إرهابية في سوريا، من بينها تنظيم "داعش". وكان أردوغان قد طلب من الولايات المتحدة أن تقوم بإسناده عبر الغارات الجوية، بعد تعثّر عملية استعادتها من خلال عملية "درع الفرات". وتحدّث أردوغان عن "أدلّة" و"وثائق" تملكها تركيا عن الدعم المزعوم، فيما وصفت واشنطن هذه الاتهامات بأنها "مثيرة للسخرية". وتظهر جليةً الاستماتة التركية في تكريس نفوذها ضمن الشمال السوري، أكان عبر إعلان إصرارها على رحيل الأسد أو محاربة "داعش" أو حزب العمال الكردستاني، فجميعها عناوين متعددة لمضمون واحد، يتجلّى في سعي تركيا إلى توسيع حدودها الجنوبية.
من جهة أخرى، تبرز إيران لاعباً إقليمياً يبحث عن الاستثمار في المعارك المتنقلة التي تقودها في الشرق الأوسط، من أجل استكمال بناء "الهلال الشيعي". وما حديث وزير الاستخبارات الإيراني السابق، حيدر مصلحي، أنّ طهران تسيطر على أربع عواصم عربية، إضافة إلى مسؤولين آخرين كرّروا أحدايث مشابهة، إلّا واحداً من جوانب مدّ إيران نفوذها، وصولاً إلى شاطئ المتوسّط. فبعد سقوط نظام صدّام حسين في العراق، استطاعت إيران أن تمسك بسياسة العراق وحكوماته، عبر مجموعة من الوكلاء السياسيين والأمنيين. كما استطاعت بسط سيطرتها العسكرية على البلاد، بفضل المجموعات الشيعية التي تدعمها بالعقيدة والمال والسلاح. وتضاعف حجم النفوذ الإيراني في البلاد مع محاربة "داعش" التي يقود معاركها البرية على الأرض مقاتلون شيعة من "الحشد الشعبي" الذي تمّت قوننته أخيراً.
كذلك الأمر، قادت إيران العمليات العسكرية البرية في سوريا للحفاظ على نظام الرئيس السوري الذي ترى فيه امتداداً لمشروعها، وصلة وصلٍ بين طهران وشاطئ المتوسط، ليكتمل ذلك المشروع. وتحدّث ناشطون، أخيراً، عن شراء المجموعات الإيرانية عدداً من الأراضي في دمشق أو خارجها، في خطةٍ واضحةٍ لتغيير الديموغرافيا السورية.
اجتمعت هذه القوى الثلاث في موسكو في 20 كانون الأول الماضي، وأصدرت "إعلان موسكو"، رأى فيه وزراء خارجيتها بداية طريق لحل الأزمة السورية. وشدّد هؤلاء على تسهيل المفاوضات بين المعارضة والنظام والعمل على وقف لإطلاق النار وإيجاد حل سياسي ينهي النزاع في سوريا. كذلك أكد المجتمعون "احترام سيادة سورية واستقلالها ووحدة أراضيها"، واستئناف مباحثات السلام انطلاقاً من القرار 2254 الذي يلحظ مرحلة انتقالية بدون بشار الأسد. واتفقوا على إجراء مفاوضات في أستانة عاصمة كازاخستان، في النصف الثاني من كانون الثاني الحالي.
وعلى الرغم من الاتصالات الجارية لتوسيع المشاركة الدولية في المؤتمر، إلّا أنّ أساس المبادرة يبقى ثلاثي الأضلاع، موسكو - طهران – أنقرة، لكنّ هذه الأضلاع غير متساويةٍ بطبيعة الحال. فموسكو هي من جمعت العاصمتين الأخريين إلى طاولة التفاوض، وربّما الاتفاق لاحقاً، إنما تحت مظلّتها وأفكارها وحتى نفوذها. في الملف السوري، تمكّن بوتين من جمع طرفي نقيض تحت سقفٍ واحدٍ، لتكريس نفوذٍ جديد في المنطقة، أو على الأقل تدمير النفوذ السابق الذي نتج عن اتفاقية "سايكس-بيكو"، والذي استفادت منه الدول الغربية عموماً. اتفاقية تعلّم منها بوتين معاني التاريخ، ليحدّد بها نفوذه في الجغرافيا. فهل إنه يما يفعله يدفع المنطقة إلى تقسيم جديد؟