بين السلطة و"الثورة"، شيء من صراع الذات تعيشه الطائفة السنية في لبنان. منذ السابع من أيار 2008، والسنّة بحاجة إلى قائد ملهم أو مخلّص. بقيت فئة واسعة منهم ترى ذلك في الرئيس سعد الحريري، وإن لم يكن الرجل طامحاً للمواجهة الشعبوية دائماً، بل غالباً اتخذ قرارات معاكسة لتوجهات جمهوره وأمانيه، وخسّرته كثيراً في السياسة وغيرها. في مرحلة التنازلات الكبرى التي قدّمها الحريري شعر السنة بفقدان الغطاء السياسي، وغالباً ما خابت رهاناتهم حتى في مرحلة ما بعد إندلاع ثورات الربيع العربي عموماً والثورة السورية خاصة، التي وجدوا فيها ملاذاً للنهوض واستعادة هيبة مفقودة، لكن أيضاً شاءت الظروف أن تجري الرياح بما يعاكس تطلّعاتهم.
في فترات متعددة حاولت شخصيات عدة لعب دور لسدّ الفراغ ولم تنجح. وبما أن الآن موسم انتخابات، الجميع يراهن على التقاط ثغرات معينة في أداء الحريري، أو اللعب على وتر التنازلات التي يقدّمها لكسب الشارع، ومن أبرز هؤلاء الرئيس نجيب ميقاتي، الذي يعتبر أنه تلقّى ضربة قاسية في طرابلس في الانتخابات البلدية.
لكن الصراع الأبرز، يدخل صلب الخطّ السياسي الواحد، وبين من كانوا أبناء التيار الواحد. وذلك في لعبة لاستمالة الشارع. ولا يزال الإنقسام على حاله، طرف يريد التسوية والتهدئة والعمل من داخل السلطة، وطرف آخر يقوده الوزير السابق أشرف ريفي منذ استقالته من حكومة الرئيس تمام سلام، يرتكز على التصعيد والخلاف مع الحريري، وصولاً إلى ما بعد فوزه الكاسح في الانتخابات البلدية في عاصمة الشمال.
وعلى قاعدة التسوية أو المواجهة، يتخذ الخلاف طابعاً يتخطى ما هو سياسي، ليصل إلى بعض الجوانب الشخصية، بين ريفي والوزير نهاد المشنوق، الذي كان مؤيداً خيار التسوية مع الرئيس ميشال عون منذ فترة طويلة، فيما لا يزال ريفي على معارضته الشديدة لها، واعتبرها تنازلاً كاملاً عن الثوابت وتسليم البلد لحزب الله. ومنذ أيام، تدور حرب كلامية بين الرجلين، بدأت بإنزال عقوبات مسلكية بحق أحد مرافقي ريفي، وهو عنصر في قوى الأمن الداخلي. ليفتح اللواء الحرب على المشنوق، الذي ردّ مغرداً مستعيناً بحديث نبوي، وصف فيه "خصمه" بـ"الرويبضة"، واستكملها فيما بعد بأبيات للإمام الشافعي: "ألا قل لمن بات لي حاسدا/ أتدري على من أسأت الأدب/ أسأت على الله في حكمه/ لأنك لم ترض لي ما وهب/ فجزاك ربي بأن زادني/ وسد عليك وجوه الطلب". وفي الردين استخدم المشنوق الرمزية الإسلامية، وتكاد التغريدة الثانية تتحدث عن عمق ما يفكره فيه المشنوق، بمعنى أن ريفي يحسده على ما كسب بفعل التسوية، فيما سدّت كل الأبواب بوجه ريفي داخلياً وخارجياً، بعدما تلقى ضربة بتشكيل الحريري الحكومة، وعودة المشنوق وزيراً للداخلية، بموافقة كل الأطراف.
ووفق المعطيات المتوافرة، فإن هذا الخلاف، سيبقى بحالة تصاعدية حتى موعد اجراء الانتخابات، إذ إن ريفي يراهن على كسب الشارع الممتعض من خيار الحريري التسووي. وهنا، يسجّل عليه البعض العديد من الأخطاء التي ارتكبها، أولها خلافه مع الحريري بما يمثّل، وثانيها اعتباره أن الحريري انتهى. وهذه كلها تأتي بنتيجة نشوة السكر بالفوز في الانتخابات البلدية، فيما بات المجلس البلدي الموالي له في وضع لا يحسد عليه. والرد المباشر على عبارة "الحريري انتهى" والذي يعتبره ريفي أنه كان تعبيراً خاطئاً، تعمد الحريري دحضه بنفسه، عبر الإصرار على إنجاح التسوية، ليثبت أنه صانع المبادرات والرؤساء. ومن بعدها عمل على تنظيم حزبه، عبر المؤتمر العام الذي عقده. ثم شكّل الحكومة، وذهب بلبنان إلى المملكة العربية السعودية.
رغم أن العنوان الأساسي للمعركة هو الخيارات السياسية، إلا أن ثمة أسباباً أخرى للصراع، والتي تتخذ من قبل البعض ضد ريفي، أبرزها أنه منذ خروجه من السلك العسكري، يحتفظ بـ70 عنصراً من قوى الأمن وهذه مخالفة قانونية، ولكن حرصاً على أمنه تم غض الطرف عن ذلك. ولكن هؤلاء للمرافقة والحماية الشخصية وليس للعمل والنشاط بالسياسة. وهذه الذريعة التي تستخدم ضده، وعلى هذا الأساس اتخذت الاجراءات المسلكية بحق أحد مرافقيه.
ينظر المشنوق إلى نفسه في هذه المرحلة بأنه رجلها، نظراً لعلاقته مع كل القوى المحلية والخارجية. ويحظى بغطاء سعودي. في المقابل، فإن ريفي خرج من السلطة، وثمة إقفال خليجي بوجهه، بالإضافة إلى ايصال رسالة له بوجوب عدم التعرض للحريري لا في السياسة ولا في غيرها. ويعتبر البعض أن ريفي يريد إيصال الرسائل إلى الحريري من خلال تصويبه على المشنوق.
لا ينفصل الصراع، عن الطبيعة الاجتماعية والحياتية للسنة، وفق مصادر مؤيدة خيار التسوية، ورافضة خيار التصعيد، خصوصاً أن أهل المدن على الأغلب، يفضّلون تحقيق النقاط والمكاسب من خلال السلطة، ولا يفضلون المواجهات والحروب. الغياب عن السلطة هو الذي أدى إلى بروز شخصيات عدة من على يمين الحريري ويساره، وأدى إلى الترهل الذي أصاب تياره، وأمعن في أزمته المالية. لذلك، ينطلق مؤيدو هذا الخيار، من الحرص على الوجود والاستمرارية وتأمين المستلزمات لذلك. فيما الطرف المناهض، يعتبر أن خياره هو الذي سيغلب في النهاية