طبّل اللبنانيون وهللوا طويلاً للإنجاز الذي ارتبط باسم وزير الصحة السابق وائل أبو فاعور " ضمان الشيخوخة "، أو بتعبيرٍ آخر معالجة من هم فوق الرابعة والستّين من عمرهم على نفقة وزارة الصحة مئة بالمئة ، طبعاً لمن ليس لديهم أيّ جهة ضامنة سوى وزارة الصحة. إجراءٌ بديهيٌ لو كنّا في بلدٍ عادي ، ولكنّه إرتقى إلى مستوى الإنجاز غير المسبوق ، في بلدٍ يمنح الحقوق البديهية لمواطنيه بالقطّارة، ويضع الوزراء الذين يكرّسون منطق الدولة الراعية لأبنائها في مصاف العظماء ، ربّما على قلّتهم.
ولكن القرار في وادٍ والمسنّون المرضى في وادي الذل والقهر على أبواب المستشفيات ، التي تبرع في ابتكار الحجج والأعذار لعدم استقبال المسن غير المضمون ، فتُفرغ القرار من مضمونه ، وتضع المريض وعائلته تحت رحمة مافياوية قلّ نظيرها ، وتلزمه بدفع مبلغٍ نقدي من المال ، تحت طائلة جعله يلفظ أنفاسه الأخيرة على أبوابها.
هذا الكلام غير مبالغ فيه ، بل يحصل مع الكثير من العائلات التي لا حول لها ولا قوة، ممن لا يملكون نعمة "الواسطة" أو امكان الوصول إلى أحد النافذين في جنّة السلطة لمساعدتهم عبر التدخل لدى وزارة الصحة. وفي هذا السياق نذكر قصة "ن . ش" مريض لبناني يبلغ عامه الرابع والثمانين ، الطبيب الذي يتابع وضعه الصحي يعمل في مستشفى "ق . ي"، وزوجته التي لا تعمل، دفعت كلّ ما أدّخرته عندما تطلب وضعه دخول المستشفى مرتين ، بحيث رفضت المستشفى استقباله قبل الدفع المسبق وعلى نفقته الخاصة. وبعد أن ساء وضعه الصحي كثيراً استجمعت زوجته ما تملك من شجاعة ، وأجرت اتصالاً بوزير الصحة غسان حاصباني على رقمه الخاص، وطلبت منه المساعدة والتدخل لدى المستشفى ، فأبدى كل تعاون وطلب منها أن تصطحب زوجها إلى المستشفى وتجري اتصالاً به من هناك في حال رفضت المستشفى استقباله ، وهكذا طلبت من الصليب الأحمر إيصال زوجها إلى قسم الطوارىء في المستشفى المذكور، وبالفعل اهتم الوزير وعاود الإتصال بها للإطمئنان ، ولكن قبل دقائق من وصولهم ، وعلى أبواب المستشفى حصل ما تخوفت منه الزوجة ، فالموظفة المختصّة رفضت استقبال المسن الثمانيني وهو في حالة طارئة ، ولم تأبه لما نقلته الزوجة عن لسان الوزير ، وأصرّت على قبض مبلغ من المال بحجة أنّ الوزارة لم تخصص اعتماداً مالياً للمرضى على عاتقها ، في هذا الوضع الحرج اضطرت الزوجة للإستدانة على عجل ، ودفعت مبلغاً من المال وأدخلت زوجها المستشفى خوفاً من تضييع الوقت ، خصوصاً أنّ وضعه الصحي لا يحتمل ، ثم عاودت لاحقاً الإتصال بالوزير مراتٍ عدة ، وأرسلت رسالة صوتية تخبره عما جرى من دون أن تلقى جواباً.
المريض مكث حوالي أسبوع في المستشفى ، والموظفة المختصة إياها أقرّت بأنّ اتصالاً ورد من الوزارة وبأنّها لم تجب ، وبدأت تتهرب من استقبال الزوجة في مكتبها ومن إتمام المعاملات ، وبعد المماطلة أنجزت الأوراق وأصرّت على أن تكون الأيام الثلاثة الأولى على نفقة المريض ، الذي فارق الحياة في المستشفى وهو يشهد في لحظاته الأخيرة على دولةٍ ومؤسساتٍ صحيةٍ تمعن بقهر مسنّيها ، وتستعجل رحيلهم ، وتدفن ما تبقى من إنسانيتها في نعوشهم.
طبعاً هذه الحالة علمنا بها ، ونملك كلّ الوثائق التي تثبت صحة الرواية ، من إيصال بالدفع المسبق إلى الرسالة الصوتية للوزير إلى كافة الأوراق الصادرة عن المستشفى ، ومما لا شك فيه أنّ هناك عشرات لا بل مئات الحالات المشابهة التي تبقى في الظل ، أبطالها لبنانيون يموتون ذلاً على أبواب المستشفيات.
ننطلق من هذه الحالة لنسأل أليس من حقنا أن نعرف ما قيمة القرارات والإنجازات الوزارية طالما لا تُترجم على أرض الواقع ؟ وطالما أنّ بعض المستشفيات تتصرف وكأنّ هذه القرارات مرتبطة فقط بشخص وزير معين ؟ ألا يستدعي هذا الوضع الكارثي تخصيص فريق كبير من وزارة الصحة ، مهمته الأولى والأخيرة فتح خطوط هواتف الوزارة لمواكبة الحالات المشابهة ،وإلزام المستشفيات تطبيق القرارات ، وعدم الإستفراد بالمرضى ؟ ألا يحق لنا أن نودّع أهلنا وأجدادنا في أيامهم الأخيرة بمنحهم ما يستحقون من رعاية صحية ، تعينهم على قضاء بقية أيام حياتهم بالحد الأدنى من الإحترام والتقدير ؟ نعم الوزارة وبغض النظر عن شخص الوزير معنية بمتابعة تنفيذ قراراتها وتسوية أوضاعها المادية مع المستشفيات ، وإلاّ فلتعلن إلغاء هذه القرارات ولتترك المسنّين لمصيرهم.