شكلت الوصايا التي تركها الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين إطارا سياسيا ودينيا بالغ الأهمية على مستوى لبنان والعالم العربي عموما وعلى مستوى الطائفة الشيعية في لبنان خصوصا، ولم يكن الإمام شمس الدين طائفيا بالمعني المذهبي والطائفي للكلمة لكنه خصّ الطائفة الشيعية في لبنان بوصاياه هذه لتكون على مستوى من الوعي والمسؤولية الدينية والوطنية وقد أراد الإمام شمس الدين لهذه الطائفة الإندماج في محيطها العربي لتكون جزءا من هذا المجتمع الذي تعيش فيه .
وقد استشرف الإمام شمس الدين كل ما مر ويمرّ الآن على الطائفة ولذلك فإن هذه الوصايا تصلح أن تكون اليوم بالذات وفي هذه المرحلة تحديدا خشبة الخلاص لكل ما مر ويمر على الطائفة الشيعية في لبنان والوطن العربي .
وصيتي الى عموم الشيعة
أوصي أبنائي وإخواني الشيعة الإمامية في كل وطن من أوطانهم، وفي كل مجتمع من مجتمعاتهم، أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي أوطانهم، وأن لا يميزوا أنفسهم بأي تميز خاص، وان لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميزهم عن غيرهم، لأن المبدأ الأساس في الإسلام ـ وهو المبدأ الذي أقره أهل البيت المعصومون عليهم السلام ـ هو وحدة الأمة، التي تلازم وحدة المصلحة، ووحدة الأمة تقتضي الاندماج وعدم التمايز. وأوصيهم بألاً ينجروا وألاً يندفعوا وراء كل دعوةٍ تريد أن تميزهم تحت أي ستار من العناوين، من قبيل إنصافهم ورفع الظلامة عنهم، ومن قبيل كونهم أقلية من الأقليات لها حقوق غير تلك الحقوق التي تتمتع بها سائر الأقليات.
إن هذه الدعوات كانت ولا تزال شراً مطلقاً، عادت على الشيعة بأسوأ الظروف. الشيعة يحسنون ظروف حياتهم ومشاركتهم في مجتمعهم عن طريق اندماجهم في الاجتماع الوطني العام، والاجتماع الإسلامي العام، والاجتماع القومي العام، ولا يجوز ولا يصح أن يحاولوا ـ حتى أمام ظلم الأنظمة ـ أن يقوموا بأنفسهم وحدهم بمعزل عن قوى أقوامهم بمشاريع خاصة للتصحيح والتقويم، لأن هذا يعود عليهم بالضرر ولا يعود على المجتمع بأي نفع. وقد جرت سيرة وسنة أهل البيت (عليهم السلام) على هذا النهج، ووصايا الإمام الباقر والإمام الصادق وغيرهما من الأئمة (عليهم السلام) هي على هذا النهج.
إقرأ أيضًا: الإمام شمس الدين حياة حافلة بالعلم والعطاء
فقد ظهرت في العقدين أو العقود الأخيرة من السنين ظاهرة في دائرة الشيعة العرب بشكل خاص، وبدائرة الشيعة بوجه عام، وهي إنشاء تكتلات حزبية سياسية بوجه خاص لغرض المطالبة بحقوق الشيعة، أو إظهار شخصية الشيعة، أو الدفاع عن حقوق الشيعة. وهذه التكوينات ـ بحسب رصدنا لما آلت إليه ـ لم تؤد إلى أية نتيجة تذكر، بل أدت إلى كثير من الأزمات، وعمّقت الخوف والحذر وسوء الظن والتربص في أنفس بقية المسلمين في المجتمع من خصوص طائفة الشيعة، وسعت نحو عزلهم بشكل أو بآخر عن الحياة العامة وعن التفاعل مع نظام المصالح العامة.
هذه التكوينات، تارة يراد لها أن تكون تكوينات ثقافية محضة، وهنا يجب ألاّ يغلب عليها طابع المذهبية التمايزية، وإنما يجب أن تنطلق من رؤية وحدوية إلى الأمة، تعتمد على الجوامع المشتركة ـ وما أكثرها ـ التي تجمع المسلمين فيما بينهم ولا تركز على خصوصيات التمايز وعلى خصوصيات التباين. وإما أن تكون تجمعات سياسية أو اقتصادية وهذا أمر لا يجوز في نظرنا أن يتم بوجه من الوجوه على الإطلاق. وقد ثبت بالتجربة أن التجمعات الشيعية المعاصرة، من قبيل "حزب الدعوة" وغير "حزب الدعوة"، لم تستطع أن تحقق لنفسها بعداً إسلامياً داخل الطوائف والمذاهب الأخرى، وإنما حققت في أحسن الأحوال تعايشاً هشاً مشوباً بالشك والحذر.
وصيتي الثابتة للشيعة العرب في كل وطن من أوطانهم، وللشيعة غير العرب خارج إيران (إيران هي دولة قائمة بنفسها)، أوصي الشيعة في كل مجتمع من مجتمعاتهم، وفي كل قوم من أقوامهم، وفي كل دولة من دولهم، ألا يفكروا بالحس السياسي المذهبي أبداً، وألا يبنوا علاقاتهم مع أقوامهم ومع مجتمعاتهم على أساس التمايز الطائفي وعلى أساس الحقوق السياسية والمذهبية. المطلوب من الأنظمة التي تضم مجموعات متنوعة أن تعترف بالهوية الدينية والمذهبية لكل مجموعة من المجموعات.
وأما بالنسبة إلى الموضوع السياسي، فأكرر وصيتي الملحة بأن يتجنب الشيعة في كل وطن من أوطانهم شعار حقوق الطائفة والمطالبة بحصص في النظام. وأوصيهم وصية مؤكدة بألا يسعى أي منهم إلى أن ينشئ مشروعاً خاصاً للشيعة في وطنه ضمن المشروع العام، لا في المجال السياسي أو الاقتصادي أو التنموي. أوصيهم بأن يندمجوا في نظام المصالح العام، وفي النظام الوطني العام، وأن يكونوا متساوين في ولائهم للنظام، والقانون، وللاستقرار، وللسلطات العامة المحترمة.
تُرتكب مظالم بطبيعة الحال من بعض الأنظمة في حق فئات الشيعة. هذه المظالم يجب أن تدار وتساس بحكمة. لا أوافق ولا أرجح أن تقوم حركات احتجاجية شيعية محضة. كل حركة سياسية احتجاجية أو مطلبية للشيعة تكون محقة، يجب أن يبحثوا بكل السبل عن أن يكون لهم شركاء فيها من أقوامهم وشعوبهم والجماعات السياسية التي ينتمون إليها. وأكرر وصيتي لهم ألا ينشئوا أية مواجهة أمنية أو سياسية مع أي نظام من الأنظمة.
إقرأ أيضًا: الحكومة أمام الإمتحان الصعب
الفاعلية المسيحية في لبنان والشرق
من الوصايا الأساسية التي أركز عليها بالنسبة إلى المسلمين اللبنانيين، وبالنسبة إلى العرب جميعاً، هي الحرص الكامل التام على ضرورة وجود وفاعلية المسيحيين في لبنان، وعلى تكاملهم وعلى شعورهم بالانتماء الكامل والرضى الكامل، وعلى عدم أي شعور بالإحباط، أو بالحرمان، أو بالنقص، أو بالانتقاص، أو بالخوف على المستقبل، وما إلى ذلك. وهذه الرؤية ليست قائمة على المجاملة وعلى الحس الإنساني فقط، وإنما هي قائمة على حقائق موضوعية أساسية لا بد من مراعاتها.
وينسحب على هذه القضية التي بدأت تثير قلقاً متزايداً في الأوساط المسيحية العربية والأجنبية، وهي وجود المسيحية في الشرق، وحضور المسيحية في الشرق. وأنا أرى أن من مسؤولية العرب والمسلمين أن يشجعوا كل الوسائل التي تجعل المسيحية في الشرق تستعيد كامل حضورها وفاعليتها ودورها في صنع القرارات، وفي تسيير حركة التاريخ، وأن تكون هناك شراكة كاملة في هذا الشأن بين المسلمين والمسيحيين في كل أوطانهم وفي كل مجتمعاتهم. ومن هنا فإني أشعر بأن المراجع الدينية الإسلامية الكبرى مسؤولة عن هذا الأمر، وأن المراجع الفكرية والتوجيهية في الإعلام وفي الثقافة وغيرهما يجب أن تركز على هذه النقطة بكل ما يمكن من قوة وفاعلية.
على المستويين العربي والاسلامي
وتتمة لما قلنا، نكرر مقولتنا الشهيرة على المستوى العربي وعلى المستوى الإسلامي، وهي أنه ـ في منطقتنا العربية الإسلامية ـ لا توجد أقليات مسلمة ولا توجد مسيحية. توجد أكثريتان كبيرتان: إحداهما أكثرية كبيرة هي الأكثرية العربية التي تضم مسلمين وغير مسلمين، والأخرى هي الأكثرية الأكبر، وهي الأكثرية المسلمة التي تضم عرباً وغير عرب. والشيعة مندمجون في هاتين الأكثريتين، وهم تارة من الأكثرية العربية، وهم تارة جزء من الأكثرية الإسلامية، وكل شيء دون هذا فهو مشروع فتنة، وفخ لاستخدام الشيعة في مصالح غربية أجنبية مخالفة لمصالحهم هم كشيعة، ومخالفة لمصالحهم عرباً ومسلمين. والحمد لله رب العالمين