الاعتدال هو الخاسر الكبير في غياب الشيخ هاشمي رفسنجاني. الإيرانيون أجمعوا على تقدير دوره التاريخي في الثورة والدولة معاً. كان بلا منازع «رجل الدولة في الثورة ورجل الثورة في الدولة». مسارعة كل التيّارات والشخصيات المعتدلة في العالم الإسلامي إلى إعلان حزنها أو تقديرها للراحل يؤكد عمق أثره في الخارج كما في الداخل الإيراني. الرئيس حسن روحاني أكبر الخاسرين بهذا الغياب. اختصر أهمية الشيخ بقوله: «فَقَدَ النظام حكيماً قلّ مثيله».
أكثر ما يعمق الشعور الإيراني بالفراغ الكبير الذي أحدثه غياب رفسنجاني، أنه جاء في أكثر الأوقات حساسية ودقّة وحتى خطورة سواء على الداخل أو على الخارج وتحديداً المحيط السياسي والجغرافي. كون رفسنجاني «عدّة رجال في رجل واحد» ساهم وساعد في لعبه أدواراً عديدة تبدو متناقضة لكنها في الواقع متكاملة.. تماماً كنشأته. ابن مزارع الفستق الحلبي المتديّن، الذي جمع الدراسة الدينية
والتجارة والاندماج في السياسة من بوابة فلسطين التي كانت دراسته الأولى عن فلسطين وتحريرها، ومن ثم المليونير الذي خصّص جزءاً من أمواله للمنح الدراسية وفي الوقت نفسه توسيع شبكة الملتزمين بالثورة والإمام الخميني.. وفي السلطة الشخصية اللصيقة بقائد الثورة وقيادة آلة الحرب ضدّ العراق وفي الوقت نفسه العمل على إحداث خرق جانبي باتجاه واشنطن رغم كل الشعارات الثورية.
اجتهد واختلف مع المرشد آية الله علي خامنئي لكنه رفض دائماً تحويل الاجتهاد إلى صراع يؤذي الجبهة الداخلية. لذلك رغم إبعاده عن الرئاسة لمصلحة شخص مثل أحمدي نجاد، ورغم انفجار الشارع الإيراني في «الانتفاضة الخضراء» عام 2009 فإنه رفض الانزلاق نحو تحويل الخلاف إلى جبهتين تهدّد إيران بـ»السورنة». لذلك فإنه عمل مع «الترويكا» المؤلفة من الرئيسَين حسن روحاني ومحمد خاتمي والسيد حسن الخميني على ضبط الإيقاع الداخلي بحيث لا ينفجر الوضع ويغرق الاعتدال في التطرّف الإصلاحي.
أمّا خارجياً فإن رفسنجاني، دعم روحاني بقوّة في المفاوضات النووية حتى نجحت. وفي الوقت نفسه تعمّد ألا تخرج دعوته للاعتدال في العلاقات الإيرانية – العربية خصوصاً مع المملكة العربية السعودية إلى السطح، لكنه ذكّر مراراً أو سرّب عبر آخرين، كيف نجح في بناء علاقات إيجابية مع العاهل الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز كما لوحظ دائماً حذره الشديد في الكلام عن سوريا إلى درجة عدم الانخراط في دعم التدخّل الإيراني إلى جانب النظام السوري، وأيضاً تجنّبه الواضح لدعم الانخراط الإيراني في علاقات عسكرية مع روسيا.
المشكلة الكبيرة التي ستواجهها إيران في ظلّ هذا الغياب المؤثّر، أن إيران على موعد، بعد أقل من أسبوعين، للتعامل مع الرئيس دونالد ترامب الغامض سياسياً وفكرياً وتنفيذياً. صياغة السياسة الإيرانية على وقع السياسة «الترامبية» ليست مهمّة بسيطة: في قلب هذه المواجهة خيارات مصيرية كان رفسنجاني قادراً على الدفع باتجاه سياسة منتجة. الرئيس حسن روحاني أصبح عملياً وحيداً في مواجهة العواصف الشديدة والمتشدّدة.. لأنه في الوقت نفسه كان التيّار الإصلاحي دائماً ميّالاً للانحياز نحو التشدّد والذهاب بعيداً في مواجهة المتشدّدين. أي خطوة غير محسوبة تضع إيران على خط النار مع «السورنة» أو على الأقل مع مواجهة واسعة وحاسمة، قد تنتج توجيه ضربة إلى الاعتدال باسم ضرب الإصلاحيين وقيادات «فتنة 2009».
قبل فترة قصيرة دعم هاشمي رفسنجاني التجديد لروحاني لولاية ثانية قائلاً: «يمكنني الآن أن أموت بسلام». كان رفسنجاني بسبب شرعيّة دوره وتاريخيته ينجح في تصحيح «البوصلة» للدولة الإيرانية من دون ضجيج. الآن لم يعد للمرشد خامنئي من صديق تاريخي قادر على مشاركته في أي عملية تحمي التوازن الداخلي. الاتجاه الغالب للسلطة في إيران هو التشدّد، فالتيار المتشدّد يعمل بلا توقف ولا تردّد على الإمساك نهائياً بمفاصل الدولة كلها تحت شعارات ظاهرها العداء لأميركا وباطنها إلغاء الآخرين في الداخل.
المرشد أمام «ساعة الرمل»، إما أن يضع خطاً أحمر أمام المتشدّدين داخلياً وخارجياً، فينقذ إيران لاحقاً من مفاجآت غير محسوبة تماماً مثل غياب رفسنجاني، أو يؤكد على التوازن الداخلي، خصوصاً أن إيران على موعد دقيق مع الانتخابات الرئاسية في 17 أيار القادم، والانفتاح على محيطه لأنه مهما كانت «بندقية» الحرس الثوري مؤثّرة فإنها غير قادرة على إلغاء أحد ولا على رسم خرائط جديدة للمنطقة، خصوصاً مع وجود اللاعبين الكبيرين روسيا والولايات المتحدة الأميركية من جهة، والإرهاب «الداعشي» المؤجّج للمواجهة السنّية – الشيعية الدموية والدامية والمدمّرة.