النقاشات الجارية حول قانون الانتخاب الجديد لا يمكنها أن تقنع أحداً بأن الانتخابات المقبلة ستجري وفق قانون جديد. وما لا يقوله كثيرون، يتجرأ البعض على فضحه، ومفاده أن التوافق الضمني عند أبرز اللاعبين المحليين هو ترك الأمور على حالها، وأن أياً من القوى الرئيسية ليس مستعداً لتغيير حقيقي. بالتالي، إن ما قد يستجدّ على المشهد النيابي المقبل هو، حصراً، تعديل طبيعي منتظر في بعض المقاعد المسيحية. فكما حصلت تعديلات جوهرية في الرئاسة والحكومة، يُتوقع أن يتكرر الأمر نيابياً، ما سيترجم تعديلات جوهرية على حجم حصص القوى الإسلامية الكبيرة، خصوصاً كتلتي الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط، حيث يفترض أن يتخلى الجانبان عن الودائع المسيحية التي في حوزتهما منذ 25 سنة، وأن تعود إلى القوى الأكثر نفوذاً في الشارع المسيحي، أي التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية.

المداولات الجارية الآن بين الكتل الرئيسية حول مشاريع قوانين الانتخاب قد تنتج توافقاً غير مكتمل على مشروع أو اثنين. لكنه توافق لن يكون كافياً لجعل مجلس النواب يقرّ تعديلاً من شأنه التسبب بخضّة سياسية كبرى. وهو أمر يحضر أيضاً، بقوة، عند الحلف الذي يضم الرئيسين نبيه بري والحريري والنائب جنبلاط وآخرين مثل النائب سليمان فرنجية والحزب السوري القومي الاجتماعي. إذ إن الأمر لا يتعلق حصراً بخسارة الحريري وجنبلاط مقاعد مسيحية، وإنما بخشية واضحة لدى هذا التحالف من تجمع المقاعد المسيحية في حوزة التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية.


ويجري التداول بمعلومات غير دقيقة عن طبيعة التحالف النيابي المنتظر بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية على خلفية «تفاهم معراب» الذي شمل دعم القوات ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية. لكن الواقع، بحسب مصادر مطلعة، هو أن هذا التحالف ليس عاماً أو مطلقاً، ولن يكون على قاعدة المناصفة في التمثيل. بل سيكون هناك تحالف حيث تدعو الحاجة كما في زحلة والبترون والكورة ودائرة بيروت الأولى، بينما يصار إلى تفاهم حيال الدوائر المغلقة لكل من الطرفين كما في كسروان والمتن الشمالي وبشرّي. وهو تفاهم ــــ إن طُبّق ــــ سيزيد من حصة الطرفين، على حساب المقاعد التي يقبض عليها الحريري وجنبلاط.
كل ما تقدم يشير إلى أن من يناقش ملف الانتخابات، لا ينطلق من حاجة البلاد إلى تغييرات شاملة، تقتضي حكماً تغييراً في قانون الانتخاب. ومع أن التيار الوطني الحر لا يمانع تغييراً جوهرياً يقضي باعتماد القانون النسبي، إلا أن التسويات الكبرى التي ترافق إعادة صياغة الحكم في البلاد قد تقود إلى خيارات أخرى. ومن بين هذه الخيارات الأفكار المتعلقة بالقانون المختلط.
وفي هذا السياق، بدا في الأيام القليلة الماضية أن المشاورات بين حركة أمل وحزب الله والتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية وتيار المستقبل، تشير إلى تراجع كبير في حظوظ الاقتراح المختلط الذي قدّمه الرئيس بري بواسطة النائب علي بزي، أو ذاك المقدّم باسم القوات ــ المستقبل ــ الحزب الاشتراكي. فيما برز إلى السطح مشروع جديد، يبتدع آلية جديدة للجمع بين الأكثري والنسبي، من خلال اقتراح الآتي:
أولاً: اعتماد آلية انتخاب على مرحلتين، ولكن على أساس تقسيم لبنان إلى تسع دوائر انتخابية، هي: بيروت، صيدا، النبطية، البقاع (يضم زحلة والبقاعين الأوسط والغربي)، بعلبك الهرمل، الشمال (يضم أقضية طرابلس، البترون، الكورة، زغرتا، بشري، المنية والضنية)، عكار، جبل لبنان الشمالي (يضم أقضية بعبدا، المتن الشمالي، كسروان وجبيل)، وجبل لبنان الجنوبي (يضم قضاءَي عاليه والشوف).
ثانياً: يُصار في المرحلة الأولى إلى اعتماد قانون الاقتراع الأكثري في عملية تأهيل للمرشحين. ويجري ذلك وفق تصويت طائفي، بحيث يصوّت المسيحيون للمرشحين المسيحيين، والمسلمون للمرشحين المسلمين. وتكون النتيجة، اختيار أول فائزَين بأعلى نسبة من الأصوات، ما يعني تأهيل مرشحَين عن كل مقعد، أي 256 مرشحاً عن 128 مقعداً نيابياً في كل لبنان.
ثالثاً: تشكيل لوائح كاملة متعددة في كل دائرة انتخابية، يكون الاقتراع لها وفق النظام النسبي، حيث تُحتسَب المقاعد لكل لائحة ربطاً بنسبة الأصوات التي تحصل عليها من جميع مقترعي الدائرة.
يعتقد أصحاب هذا الاقتراح أنه يسمح للطوائف بتأهيل المرشحين عن المقاعد الخاصة بها، ما يسقط نظرية أن المسلمين يختارون المسيحيين أو العكس، وأنه يسمح بتمثيل واسع، لكون اعتماد النسبية يمنع على أحد احتكار جميع المقاعد النيابية. لكن أصحاب هذه النظرية يتجاهلون مخاطر استراتيجية منها:
ــــ إن التذرع بصعوبة تطبيق النظام النسبي يخفي ضمناً رفض القابضين على مؤسسات الدولة أي محاولة لتغيير حقيقي في البلاد، وإن هذه القوى تريد إعادة إنتاج النظام نفسه مع بعض التجميل.

 

ــــ إن عملية التأهيل، خصوصاً مع التصويت الطائفي، تعني تشريع حالة الانفصام القائمة الآن بين الخطاب الوطني والخطاب الطائفي والمناطقي لغالبية النواب. بل يمنح الطوائف حق الفيتو على من لا تريده غالبية متحكمة. وهو أصلاً عمل يناقض الدستور، الذي يفرض أن يكون النائب ممثلاً لجميع المواطنين، لا لفئة دون أخرى.
ــــ إن هذا القانون يجعل من النسبية مطية ويحوّلها إلى وسيلة لتأبيد النظام الطائفي. كذلك، إن تقسيم لبنان إلى تسع دوائر يتأهل المرشحون فيها وفق انتمائهم الطائفي يعني، حكماً، منع القوى السياسية والحزبية العابرة للطوائف والمناطق من التمثل، نتيجة عدم تمركز قوتها الانتخابية في منطقة دون أخرى.
ما تنبغي الإشارة إليه هو أن هناك من يريد جعل مناصري النسبية يقبلون ببقاء قانون الستين، بدل تعريض مشروع النسبية لعملية تشويه كبيرة، كما يرد في اقتراحات القانون المختلط. وقد يكون هذا خيار كثيرين من الناس، الذين يفضلون بقاء المعركة من أجل تغيير شامل قائمة ومفتوحة، عوض الدخول في متاهة المختلط. يُضاف إلى هؤلاء، اللبنانيون الذين شطبوا ــــ أو يريدون شطب ــــ القيد الطائفي الخاص بهم بصورة نهائية، واستبدال المذهب أو الدين بفئة «مدني أو لا ديني»، ورغبة هذه الفئة، غير القليلة، في إيصال ممثلين لها خارج القيد الطائفي إلى البرلمان. وهذه حاجة لكل من يفكر حقاً في نقل لبنان من مشروع الساحة ــــ الغابة ــــ الشركة إلى مشروع بلد يمكنه العيش من دون أزمات وطنية دائمة.
كل اقتراحات القوانين التي لا تعتمد النسبية بلا قيد أو شرط، ومهما اختلفت مسمياتها، تهدف إلى تحويل الانتخابات إلى عملية تعيين. وقد يكون اقتراح التأهيل أسوأ النماذج في هذا الإطار، لكونه يتيح للقوى الكبرى إجراء «مقاصة» سياسية لتبادل الدوائر بين القوى الكبرى، وغش الرأي العام عبر القول إن النسبية باتت مطبّقة في لبنان. أمام هذا الواقع، يُصبح لزاماً على مؤيدي النسبية رفع الصوت عالياً، للمطالبة بإسقاط كل مشاريع «المختلط»، وأن يكون شعارها واضحاً بلا خجل: إما النسبية كاملة، وإلا فالستين أهون الشرور.


نسبية بلا محتوى

دراسة اقتراح قانون الانتخابات النيابية المبني على التأهيل الطائفي تُظهر أنه يُفقِد النسبية جوهرها، وهو ضمان تمثيل الأقليات. والأقليات هنا ليست بالضرورة طائفية، بل سياسية عابرة للطوائف أيضاً. ولا بأس هنا من بعض الأمثلة التي تُظهر سوء هذا القانون.
في دائرة الشمال، حيث أقضية طرابلس والمنية والضنية والبترون والكورة وزغرتا وبشري، سينتخب المسلمون المرشحين المسلمين، والمسيحيون المرشحين المسيحيين، في المرحلة الأولى من الانتخابات وفق قانون التأهيل. وفق الانقسام الحالي، يُمكن بسهولة توقع لائحتين من المرشحين المسلمين، واحدة يقودها تحالف الرئيسين سعد الحريري ونجيب ميقاتي والنائب محمد الصفدي والوزير السابق فيصل كرامي وحلفائهم، وأخرى يقودها اللواء أشرف ريفي. وماذا عن المقعد العلوي؟ وفق الانقسام الحالي أيضاً، يمكن بسهولة توقّع أن أياً من اللائحتين لن يضمّ مرشحاً عن الحزب العربي الديموقراطي، التنظيم الأكثر تمثيلاً بين العلويين. ماذا يعني ذلك؟ ببساطة، يعني هذا الأمر أن المرشَّحَين للمقعد العلوي، اللذين سيتأهلان إلى المرحلة الثانية من الانتخابات، سيكونان مرشّح ريفي، ومرشح تحالف ميقاتي ــ الحريري ــ كرامي والآخرين.
الأمر ذاته ينطبق على عكار. لائحة تيار المستقبل ولائحة ريفي وحلفائه، ستضم كل واحدة منهما مرشحاً علوياً يتأهلان بأصوات السنّة إلى المرحلة الثانية. في المقابل، يُمكن تحالف حزب الله وحركة أمل أن يقسم أصواته بصورة تؤدي إلى فوز 4 مرشحين من فريقه السياسي للتنافس في المرحلة الثانية على المقعدين السنيين في صيدا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المقعدين الشيعيين في بيروت، حيث يمكن تيار المستقبل، ببعض التحريض والمال والتنظيم، أن يحسم سلفاً هوية المرشحين الأربعة، كما هوية المرشحَين للمقعد الدرزي. كذلك إن تحالف المستقبل والنائب وليد جنبلاط والجماعة الإسلامية قادر على إنهاء أي معركة على مقاعد الدروز والسنّة في عاليه والشوف، تماماً كقدرة حزب الله وأمل على حسم معركة المقعدين السني والدرزي في حاصبيا بأصوات الشيعة في مرجعيون والنبطية وبنت جبيل. أما الأحزاب العابرة للطوائف، والتي ترى في النسبية متنفساً وحيداً لها، فسيكون لزاماً عليها الالتحاق بالكتل الطائفية الكبرى، أو عقد تسويات مسبقة معها، لضمان تأهلها إلى المرحلة الثانية، وتالياً إلى المجلس النيابي، في دوائر ذات أغلبية طائفية كاسحة كمحافظة النبطية أو دائرة البقاع الشمالي.