وجاء التقليص في عدد القوات الروسية فيما تشهد الجبهات الرئيسية هدنة هشة فرضت بمقتضى اتفاق تركي روسي، وفرض أمرا واقعا على إيران، ومن ورائها حزب الله، الذي وجد نفسه في مأزق، فهو لا يستطيع الاستمرار في سوريا مع غياب الغطاء العسكري والسياسي الروسي، كما أن إيران ليست في موقع يجعلها تعارض الحليف الروسي في الوقت الراهن.
حرص حزب الله في الفترة الأخيرة على تصوير معركة حلب بوصفها المعركة الأخيرة التي سيكون الانتصار فيها مقدمة لإعلان الانتصار التام والنهائي لمحوره.
حزب الله رسم لنفسه خارطة نفوذ في المنطقة وفي لبنان انطلاقا من هذا التصور، ولكن حساباته لم تتطابق مع حسابات الدول الكبرى المشاركة في الحرب السورية، فقد عملت روسيا بعد سقوط مدينة حلب على إنشاء اتفاق ثنائي بينها وبين تركيا لم يكن حلفاء حزب الله الرئيسيين، أي طهران ودمشق، مشاركين فيه.
فصيل محدود الدور والقيمة
وجد الحزب نفسه مع اتفاق الهدنة في كل سوريا أمام مأزق مزدوج فهو لا يستطيع البقاء في سوريا مع غياب الغطاء العسكري والسياسي الروسي، لأن ذلك سيتسبب في كلفة بشرية ومادية باهظة، الحزب ليس قادرا على تحملها، كما أنه لا يستطيع العودة إلى لبنان من دون أن يكون قد حقق انتصارا واضح المعالم ومكتمل الأركان في سوريا، يمكن أن يبرر من خلاله لجمهوره التضحيات الكبرى التي دفعه إلى تقديمها.
يضاف إلى ذلك أن الحزب مضطر في المرحلة القادمة إلى إعادة بلورة تفاهماته مع الدولة السورية بقيادة بشار الأسد، بعد أن كان قد اعتقد أنه نجح مع التدخل الإيراني المباشر في سوريا في وضع الأسد تحت وصايته.
لم يظهر الأسد إطلاقا استعدادا للخضوع للسلطة الإيرانية، وقد أدى التدخل الروسي إلى تمكين دوره إلى حد ما، وإعادة تظهيره كممثل مقبول للدولة السورية، وذلك على الرغم من الترهل الكبير الذي أصابه وأصاب مؤسسات الدولة السورية.
وقد سمح تفاقم العمليات الإرهابية التي ضربت الغرب بإعادة إنتاج صورة جديدة للأسد بوصفه قائدا لدولة تواجه منظمات إرهابية وميليشيات مسلحة.
لا تتناسب هذه الصورة التي يحرص الأسد على تعميمها مع مشهد النظام الذي تحميه ميليشيا مسلحة، وكذلك لا يزال الأسد يعتبر لبنان ساحة لنفوذه. ويعلم تاليا أن حزب الله على الرغم من مرجعيته الإيرانية الأيديولوجية والتمويلية إلا أن حضوره في المنطقة كان إيرانيا وسوريا، لذا فإن النفوذ الإيراني في لبنان عبر حزب الله لا بد له من أن يكون تحت سقف الدولة السورية التي تنظر إلى حزب الله كفصيل محدود الدور والقيمة، ولا بد له من الخضوع للجيش السوري. يضاف إلى ذلك أن استبدال الحزب بصيغة توازيه وتخضع لسلطة الدولة السورية بدأ فعليا مع دعوة النظام أنصاره إلى الانضمام إلى “الفيلق الخامس اقتحام”، والشروع في إعداده للقيام بمهمات توازي ما كان يمكن أن يقوم به حزب الله.
كذلك تجدر الإشارة إلى أن الآلة الإعلامية الروسية استبقت سقوط حلب بالتقليل من دور إيران وحزب الله فيه. ونشرت بعض وسائل الإعلام التابعة لروسيا مقالات ومواد إخبارية تفيد بأن حزب الله والإيرانيين لا يقاتلون عمليا، وإنما يكتفون بمحاولة استثمار إنجازات الجيشين الروسي والسوري.
كما أن روسيا بدأت مؤخرا بتنفيذ عملية انسحاب منهجية من سوريا في محاولة لتأكيد حدود الاتفاقات التي رسمتها مع تركيا، وإطلاق رسالة مفادها أن من يريد البقاء في سوريا وخرق الاتفاق فإن عليه أن يفعل ذلك على حسابه، ما يعني أن على إيران وحزب الله خوض المعارك دون تغطية روسية، وهو ما أثبت سياق الوقائع الميدانية أنه مغامرة باهظة الكلفة.
كل هذا السياق المتشابك يفتح على عناوين عديدة لا يشكل حزب الله فيها سوى تفصيل جزئي في إطار كلي يتشكل من صراع الأقليات، والمصالح الاقتصادية للدول الكبرى وإمكانية نجاح الاتفاقات التي تعقدها وطموحات التقسيم، وأمن إسرائيل.
ويصر الباحث الاستراتيجي نبيل خليفة على ربط واقع حضور حزب الله في سوريا بمشهد واسع، وبالغ التعقيد والتشابك. يشير خليفة إلى الحرص الروسي على عقد اتفاق مع تركيا على الرغم من أن العلاقة بينهما اتسمت بالعداوة ووصلت إلى حدود كبيرة من التصعيد مع إسقاط تركيا لمقاتلة روسية في أواخر العام 2015.
ويعود السبب في نظره إلى أن روسيا “تخاف من السنة، لكنها لا تريد استعداء مليار و400 مليون سني في العالم، لذا عمدت إلى إنشاء معاهدة مع الطرف السني الفاعل في المنطقة وهو تركيا، واستبعدت إيران التي تعتبر حليفتها المباشرة”.
ويستطرد خليفة مشيرا إلى أن “التقارب التركي الروسي لا يعني أن العلاقة بين موسكو وطهران انتهت، أو تحولت إلى علاقة صراعية. كل ما في الأمر أن اللحظة تتطلب تموضعا محددا لروسيا لمحاولة التخفيف من حجم ردة الفعل السنية على مشاركتها في الحرب السورية والتي بدأت تتخذ طابعا راديكاليا في كل العالم. قرأت روسيا جيدا رسالة اغتيال سفيرها في تركيا ومحاولات ضرب مصالحها في أكثر من عاصمة، وهي تحرص على طمأنة السنة وإطلاق رسالة مفادها أنها تحارب الإرهاب ولا تحاربهم، لأنها تعلم أن لا طاقة لها على تحمل كلفة معاداة المد السني في كل العالم”.
وهذا السياق لا يعني وفق خليفة أن روسيا “تراجعت عن دورها كحامية للأقليات في المنطقة وعن كونها ناطقة باسم أقلية الروم الأرثوذوكس. حلفها مع إيران لا يزال قائما ولكنه مجمد حاليا، والنظر إلى دور حزب الله ووجوده لا يجب أن يخرج عن هذا الإطار. وجوده في سوريا مرتبط تماما بطبيعة العلاقات الروسية الإيرانية من جهة، وطبيعة العلاقات بين الأسد وحاميه الروسي وما إذا كانت روسيا تميل إلى منحه المزيد من الحماية في المرحلة المقبلة، من جهة أخرى”.
قوة المعاهدات
الباحث السياسي والأستاذ الجامعي حارث سليمان يؤكد أن دور حزب الله في سوريا “مرتبط بالجو الإقليمي والاتفاقات التي جرت. حتى الآن واضح أنه جرى اجتماع وحيد إيراني تركي روسي، مع ذلك فإن الاتفاق لم يكن ثلاثيا، وإنما خرج إلى النور بهيئة ثنائية تركية روسية. كان واضحا أن الإيرانيين ليسوا جزءا منه، لذلك فإن حزب الله يبني موقفه على ضوء هذه الحقيقة، ما يعني أنه لن ينصاع لهذا الاتفاق الذي جرى دون إيران، حتى ولو نص كما أعلن الأتراك على انسحاب القوات الأجنبية بما في ذلك الميليشيات من سوريا ومن ضمنها حزب الله”.
ردة فعل المعارضة السورية تميل كما قال سليمان إلى “استحضار صدام إيراني روسي، لكن هذا الأمر مستبعد لأن الإيرانيين لديهم من الذكاء والمرونة ما يجنبهم الانزلاق إلى استعداء الروس، ومن الواضح أنهم سيميلون إلى إفشال الاتفاق الحاصل”.
ويرى أن محاولات إفشال الاتفاق “قد تكون عبر توكيل نظام الأسد بمحاولة ضرب الاتفاق على الأرض، وجر المعارضة إلى ردود فعل عنيفة، وخلق نوع من صدام بين طرفين لم يلتزما بطريقة متوازية. ومن جهته قد يلجأ حزب الله إلى بعض الإجراءات التصعيدية، واستدراج المعارضة للخروج من الاتفاق وجعله اتفاقا محدود التأثير وإسقاط مفاعيله”.
صراع الأقليات والأكثرية
يشير نبيل خليفة إلى أن “الرئيس السوري بشار الأسد وحتى لو كان تحت الوصاية الإيرانية ومحتاجا بشدة إلى مساعدة حزب الله فإن نظرته إلى لبنان لا تتغير، فهو لا يزال يعتبر لبنان الحديقة الخلفية له، وأنه ليس سوى جزء من ريف دمشق. وتاليا فإن لسوريا الكلمة الأولى في لبنان”.
ويلفت إلى أن “علاقة الأسد وحزب الله ترتبط بالعلاقة الروسية الإيرانية، والتحولات التي جرت مؤخرا لا تعني أن إيران قد باتت خارج المعادلة في سوريا. بوتين كان محتاجا للتنسيق مع أردوغان الذي يمثل الخط السني في المنطقة ومن الطبيعي أن يتجنب التنسيق مع إيران التي يعاديها السنة”.
لا يعتبر خليفة أن هناك صراعا روسيا إيرانيا، “بل يجب النظر إلى الأمر من زاوية الأقليات والأكثرية، فهناك في المنطقة حوالي 56 أقلية وأكثرية واحدة، هي الاكثرية العربية السنية. وترى الأقليات أن من مصلحتها التجمع والتحالف لضرب هذه الأكثرية الوحيدة.
والإحصاءات تقول إن نسبة السنة في المنطقة تبلغ 52 بالمئة في حين يشكل الشيعة مع إيران 31 بالمئة وهناك نسبة 17 بالمئة يتوزعون بين أقليات مسيحية ويهودية. من هنا فإن الخطأ التاريخي الذي تقع فيه الأقليات يكمن في أنها تتوهم أن بإمكانها الانتصار، ولكن المعركة لن تبقى في حدود المنطقة، بل ستفتح على امتداد العالم حيث تبـلغ نسبة السـنة 85 بالـمئة في حين لا تـتجاوز نسبة الأقليات الـ15 بالـمئة”.
ويخلص خليفة إلى نتيجة مفادها أن “دور حزب الله في سوريا في المرحلة القادمة يتحدد على ضوء المعركة الكبرى بين الأقليات والأكثرية التي لا تزال مفتوحة والتي لم تتحدد معالمها بعد”.
يعتبر حارث سليمان، من جهته، أن نظام الأسد إذا خيّر بين أن يكون في الحضن الإيراني والحضن الروسي، فإن العلويين كفئة أقلوية “يفضلون أن يكونوا مع الروس، لأن إيران لديها حركة عسكرية على الأرض من الحشد الشعبي، والحرس الثوري، وحزب الله، لكن ليست لديها حاضنة اجتماعية، يمكنها الاستفادة منها في إنجاح الحلول السياسية وتغيير التوازنات”.
ويضيف أن “الأسد، وطائفة العلويين في سوريا، لا يميلان إلى تكبير الدور الإيراني كما أن الروس يستطيعون الاستغناء عن الدور الإيراني تماما. إيران تستطيع أن تكبر حصتها في الحرب ولكنها لا تستطيع أن تستثمر هذه الحصة الحربية في مجال التوازنات السياسية، هذه أزمة إيران في سوريا وهي أزمة تراهن على استمرار القتال أكثر من مراهنتها على البحث عن الحلول والتوازنات السياسية”.
ويعتبر حارث سليمان أن حزب الله “جزء من الجهوزية العسكرية الإيرانية؛ وهو مثل إيران لا يستطيع أن يلعب دورا سياسيا في سوريا، كما أن العلويين في سوريا ليست لديهم القدرة على إدامة الحرب لسنوات طويلة حيث سقطت لهم أعداد كبيرة من القتلى، وهم لا يستطيعون تحمل كلفة الاستمرار في الحرب. النظام يخسر قدرته الذاتية، لديه 66 ميليشيا حليفة تقاتل إلى جانبه لكن كل هؤلاء لا يستطيعون تحويل الإنجازات العسكرية إلى انتصار سياسي في غياب الحاضنة الاجتماعية لهم”.
ويؤكد “عندما يصل النظام إلى هذه المرحلة من الوهن في بنيته الأساسية وفي عصبه العلوي، فإن كل هذه الميليشيات ومن ضمنها حزب الله لا تستطيع تفعيل إنجازاتها العسكرية. وهذا الواقع أوصل روسيا إلى قناعة تقضي بضرورة الانتقال إلى الحل السياسي لأن الحرب لم تعد ممكنة، فالنظام ضعيف لدرجة أن التسوية تنقذه. والحل السياسي يمكن أن يحفظ للنظام البعض من التوازنات داخل السلطة ما يحفظ المصالح الروسية”.
عودة الحزب إلى لبنان
يقرأ حارث سليمان أثر نجاح الاتفاق الروسي التركي الذي يقوم على نقاط هامة جدا، ويعتبر أن مفاعيله “ستضع إيران في مأزق فهي لا تستطيع مواجهة موسكو أو التعارض مع السياسة الروسية، وهكذا ستتكشف أزمة حزب الله وتتعمق، وسيظهر بأنه متروك ليس من أعدائه بل من راعيه الإقليمي الذي زجه في الحرب في سوريا ثم تركه مكشوفا. نجاح الاتفاق سيؤدي إلى عودة حزب الله إلى لبنان. حزب الله قوة ثانوية في الإقليم ولكنه قوة رئيسية في لبنان، وتاليا فإنه يستطيع الحفاظ على نفسه في الساحة اللبنانية حتى إذا لم يحقق نتائج كبيرة في سوريا، لا سيما أن القوى اللبنانية ليست جدية ولا وازنة في مواجهته، وتعتمد معه سياسة التقية، وتعطيه التغطية الشرعية وتعقد معه صفقات تسووية، يأخذ من خلالها ما يريد ويترك للآخرين ما يتخلى عنه”.
ويضيف الباحث السياسي أن “حزب الله يمارس الغلبة في لبنان من خلال المفاصل الأساسية في الدولة اللبنانية وليست لديه أي مخاوف من السلطة في لبنان، لم يبق أي موقع مفتاحي في السلطة خارج وصايته سوى المصرف المركزي. كل باستثناء النظام المصرفي الكل نفذ أجندة حزب الله، من الجيش إلى شعبة المعلومات إلى قوى الأمن، وخصوصا في موضوع ملاحقة ما يسميه بالإرهاب”.
ويختم بأن حزب الله “يمارس الغلبة في لبنان؛ والحكومة التي يرأسها سعد الحريري يمكن لحزب الله أن يأخذ داخلها القرار الذي يريده عبر 17 وزيرا منه ومن حلفائه، إضافة إلى دعم رئيس الجمهورية. فحزب الله لا يخشى أي جهة في لبنان، خسارته في تسوية سوريا ستكون فقط على صعيد الدور الإقليمي الذي يلعبه، لكن في أي تسوية قادمة ستكون للعلويين حصة أكيدة في السلطة في سوريا، وتاليا سيحتفظ حزب الله بحصته من هذه الكعكة، وبما أنه لن تعلن هزيمة كاملة لإيران في سوريا فذلك لن يشكل هزيمة لحزب الله داخل لبنان”.