دموع، صراخ، انهيارات عصبية، نزيف قلوب عائلات فجعت بخبر وفاة ابنائها في مجزرة #اسطنبول، وغيرها من المشاهد المأسوية التي تابعها جمهور عاش صدى هول المصيبة لحظة بلحظة مباشرة على الهواء.
لا خصوصيات، معلومات خاطئة من هنا وهناك، تكهنات بأن المفقود تارة فارق الحياة وأخرى لا يزال على قيدها. مراسلون وكاميرات من وسائل اعلامية عدة غزت منازل أهالي الضحايا، وضعوا الأخلاقيات المهنية جانباً لا بل تخطوا الأدبيات الإنسانية، نزلوا الى "ساحة المعركة" تبارزوا للحصول على "سكوب" اعلامي، غير آبهين بعمق جرح من طعنوا بفقدان أحبائهم، وردود أفعالهم الطبيعية.
أبٌ مفجوعٌ على وحيدته، بثَّ عويله على الجمهور، لم تدعه الكاميرا يبكي ويصرخ بخصوصية، اللقطة مرت في النقل المباشر وفي الريبورتاج الممنتج، صراخ شقيقات الياس ورديني عندما تأكد خبر وفاته صدح في آذان الملايين، جرحى مذهولون من المشهد الدموي الذين اجبروا على ان يكونوا في كادره في اسطنبول، تفاجأوا بعدسات الكاميرات تسلط عليهم، ومراسلون ينهالون عليهم بأسئلة أقل ما يقال عنها "سخيفة". انزلاقات الاعلام الى الحضيض دفع بناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي الى توجيه اقسى نقد اليها.
وزير الاعلام ملحم الرياشي دخل على الخط مشدداً على ضرورة إقرار قانون للآداب الإعلامية، ولفت في اتصال مع "النهار" الى أن" وجوده ضروري تماماً كما يوجد قانون للآداب الطبية". وشرح: "هو قائم على نقاط عدة أبرزها احترام خصوصيات الآخرين، تحديد أهمية السبق الصحافي وما يعني الرأي العام وما لا يعنيه، وحماية حق وسائل الاعلام بالبث المباشر والحصول على سبق صحافي من دون الخروج عن اللياقات التي هي من تراث لبنان وعراقته".
التنافس بين وسائل الاعلام يحتاج بحسب الرياشي الى انتباه وقال "لا يمكننا ظلم الاعلام بكل شيء، طبيعة حياتنا تفرض في بعض الاحيان على الاعلام ملاحقة السبق الصحافي اين ما كان لكن ليس أياً كان".
حملة كيدية
محطة الـ MTV، نالت نصيبها من نقد الجماهير، لاسيما تسرعها في نقل صورة خاطئة للضحية #ريتا_الشامي، وغيرها الكثير، مدير الأخبار والبرامج السياسية في التلفزيون غياث يزبك اعتبر في اتصال مع "النهار" ان" هناك استباحة من بعض الاعلام لبعض الاعلام الآخر، تحديداً من الصحافة المكتوبة التي تستوطي حيط وسائل الاعلام المرئية، كون عملها مشكوف اكثر وتتعامل مع الاشياء الحيّة، هذا ليس انتقاصاً من قيمة الصحافة المكتوبة، لكن إن نظرنا دائماً عن اسباب النقاشات المطروحة نجد انها اجمالاً تأتي من بعض الصحف المكتوبة، التي تضطر السياسيين ووسائل التواصل الاجتماعي الى التفاعل معها".
وأضاف: "في المتابعات التي استمرت اكثر من 24 ساعة لم نسمح بنقل المشاهد من أرض الجريمة ولا استبحنا خصوصيات الاهل ومصير بعض الاشخاص الذي كان لايزال معلقاً، لكن هذا لا يلغي امكانية ان ننزلق بطريقة غير مقصدوة في بعض الاوقات، مع التشديد على ان الـ(ام تي في) تحاول الفرض على مراسيلها ان يكونوا الاقل انزلاقاً الى ما يخدش الحياء العام وحساسيات العائلات المجروحة، لكن تناولها من قبل بعض الصحافيين هو في سياق الحملة الكيدية من بعض الاعلام المعروف".
غلواء المنافسة
التعاطي المباشر مع الكوارث الطبيعية والارهابية يحتاج بحسب يزبك الى "وحدة نظر من قبل الاعلام كاملاً، للحؤول دون استباحة الخصوصيات، لكن لا يوجد مسعى جدي لوضع مقياس كالموجود في الغرب حيث لا نرى دماء عند التعاطي مع الكوارث"، لكن هل ينتقص ذلك من الخبر؟ عن ذلك، اجاب " كلا، بل على العكس، هناك تركيز على الخبر وفحواه من دون الغوص في المشاهد الدموية، التي فيها ارتدادات مؤذية".
وعن قانون الادبيات الاعلامية الذي تحدث عنه الرياشي، علٌّق" انا من القائلين انه يجب اعادة تحديد مفهوم الخبر السريع والملحق، ما هو قابل للتغطية المباشرة وما لا يستحقها، لكن السباق بين وسائل الاعلام خصوصا المرئية، يدخلها بمتاهات عمياء بعيدة عن الاصول المهنية وذلك نابع من استشراس في نقل الخبر والمزايدة في الوقت عينه، كما لا يوجد خبرة كافية للمراسلين على الارض".
واستطرد "شاركت في اربع او خمس شرعات لاخلاقيات المهنة، منها ما وصل الى الوزارء قبل ان ينام في الادراج، لذلك لسنا بصدد ان نعيد عمل ما قمنا به سابقا، بل المطلوب الاتفاق بين وسائل الاعلام على عدم التدخل في خصوصيات الناس واقتحام مواجعهم على الشاشة، اي ان كل ما هو مطلوب التخفيف من غلواء المنافسة".
تبرير الانزلاقات
من جانبها، ردّت المديرة التنفيذية في قسم أخبار محطة الـ LBC لارا زلعوم، على سهام الانتقادات وقالت "نحن من الاساس كنا ننقل مباشرة من داخل منزل عائلة ورديني عندما أُطلقت صرخة شقيقات الياس، لم نوجه الكاميرا عليهن، لم يمرّ طوال فترة البث أكثر من صورة او اثنتين للشقيقات المفجوعات، وعندماشعرنا ان الموضوع خاص الى هذه الدرجة، اوقفنا الهواء، باختصار عملنا ضمن المعيار الذي نتبعه في العادة وهو تحاشي الخصوصية، ما اقوله واقع، والشريط موجود".
وعن المنافسة بين الوسائل الاعلامية وتأثيرها على نقل الخبر اجابت " نعم هناك منافسة، لكن الاهم ان تبقى الاخلاقيات اعلى منها، نحن اول من عرف بالكارثة وتحدث عنها، لكن في الوقت عينه كنا حريصين على طريقة العمل، فعائلة ريتا الشامي على سبيل المثال رفضت دخولنا منزلها، احترمنا قرارها، استئذنا شقيقها وعندما وافق فتحنا له الهواء، كما ان مراسلنا ادمون ساسين كان على متن الطائرة التي تقل الجرحى لكنه لم يقترب من المصابين".
أخطر ما يتم التعامل معه بحسب زلعوم هو "النقل المباشر، قد نواجه ما لم نحسب له حساباً، هنا يتوقف الأمر على توقيت وقف البث في اللحظة المناسبة".
وعن قانون الاخلاقيات، اجابت " وضع قوانين لضبط البث المباشر موضوع متشعب يحتاج الى دراسة وتعمق، لا نريد التسرع في إعطاء الرأي لنرى ما يفكر به الوزير وماذا سيقول، عندها سنناقشه بسقف حرية مفتوح للاعلام، مع العلم انه في عهد وسائل التواصل الاجتماعي لم يعد للحرية سقف، الامر بات يتوقف على كيفية التعاطي الاخلاقي مع المواضيع المطروحة".
"ميليشيات" تتقاتل على الهواء
"الوضع الاعلامي اللبناني مأزوم"، بحسب عميد كلية الاعلام السابق الدكتورجورج كلاس الذي شرح لـ"النهار" ان" الاعلام لم يعد قادراً على قيادة القضايا، في السابق كان هو المحرك للقضايا والمبادر، اليوم استقال او اقيل من دوره او ان هناك ضغوطاً عليه". وفي رأيه، انه "التمييز بين الاعلام التلفزيوني المباشر وهو الذي يحمل كل الخطأ والخطيئة وبين الاعلام المطبوع، اذ رغم الازمة التي تضرب الاعلام الورقي لا يزال يشكل كرامة الاعلام اللبناني. على عكس الاعلام المرئي الارتجالي النفعي، حيث تحولت بعض وسائل الاعلام الى ميليشيات جديدة تتقاتل على الهواء".
الثقة بالاعلام المطبوع تعود لاسباب عدة شرحها كلاس" عامل الوقت، حيث يوجد الصحافي والمسؤول عنه في القسم ورئاسة التحرير، جميعهم يطبخون الخبر، يدرسون جوانبه وتداعياته، في حين هناك خفة في التعاطي وتسرع في الاجتهاد في الاعلام التلفزيوني المباشر من قبل بعض الاعلاميين غير المحترفين الذين يتسابقون ويتبارزون لنقل الفجيعة من بيت اصحاب الضحية، ما يعني قتل الضحية مرتين، وهنا اتهم المؤسسات الاعلامية التي يجب ان تمارس الرقابة المسبقة على من ترسلهم الى موقع الحدث فالكرامة لا يجب ان تهان".
"اصبحنا في اخر مستويات الاعلام العربي اخلاقيا ومهنيا بعد ان كان الاعلام اللبناني الرائد والمبادر، ما يستدعي خطة عمل سريعة"، بحسب كلاس الذي اضاف: " المشكلة الاساسية تكمن في عدم وجود خلية ازمة وناطق رسمي يعطي المعلومة الدقيقة والصحيحة، في المرحلة الاولى الصحافيون اجتهدوا، قد تكون معلوماتهم متناقضة وسريعة لكنهم كانوا مصدراً للخبر لكن مع الوقت يجب ان تكون الدولة هي المصدر، لم نعرف في مصيبة اسطنبول من المصدر وزارة الاعلام ام الخارجية ام الصحة ام الصليب الاحمر". كما تساءل كلاس عن دور المجلس الوطني للاعلام وقال" اين هو من هذه الازمة؟" معتبراً ما قاله الوزير الرياشي من باب التمنيات " كون ما طرحه يحتاج تعديلات قانونية".