فرض الفرنسيون قيام دولة لبنان الكبير عام 1920 معتبرين أن للكيان خصوصية مسيحية وجبت حمايتها من ظلال العثمانية وما بعد تلك العثمانية. رسمت باريس حدود البلد على نحو يوفّر حدا أدنى من المساحة والموارد والديموغرافيا. لم يكن المسيحيون يريدون لهذا الوطن أن يكون مسيحيا خالصا، لكنهم لا يريدون أن تتفكك مساحة البلد على مناطق تعج بوجود إسلام طاغ. فضلوا تمدد متصرفية جبل لبنان باتجاه ولايات مسلمة وفق خرائط الجنرال هنري غورو، ولم يقبلوا حدودا عرضها عليهم رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو كانت تشمل دمشق.
امتلك المسيحيون في لبنان، بقيادة ما أطلق عليه اسم المارونية السياسية، حصافة وحكمة تجيد إدراك قوتهم الكامنة وقوة محيطهم الدائمة. درجت مقولة “فرنسا أمنا الحنون” للتعبير عما يمثله لبنان من امتدادات في الوجدان الغربي. لكنّ المسيحيين المتسلحين بغيرة الدول الكبرى واستعداداتها الحمائية، أدركوا بسرعة أن أمنهم وسلامة وطنهم يتأسسان على قواعد فهم توازنات المنطقة والتأقلم مع شروطها، ذلك أن حسابات الكبار خبيثة لن تتردد في إهمال لبنانهم إذا ما أملت مصالحها عكس ذلك.
فطن مسلمو البلد لنسبية الأمور وعرضيتها. رفضوا “لبنان الكبير” وقبلوا به لاحقا. تعاملوا مع المسيحيين في بدء تشكّل الكيان بصفتهم ندا يستقوون ضده بمآلات الحرب العالمية الثانية.
سقط الباب العالي وسقط معه مرجع أهل بيروت وصيدا وطرابلس، ولم يهضموا إلا على مضض حشر “أمتهم” في حدود الدولة الصغيرة التي ترفع الجدران أمامهم وتفصلهم عن “الأمة” الإسلامية مرة، والعربية مرة ثانية.
لكن مسلمي الاستقلال الأوائل انخرطوا في رسم ملامح البلد الفتيّ، وأدركوا حاجة المسيحيين لهم لانخراطهم في تجربة لا سابق لها في التاريخ.
تعلّم المسلمون والمسيحيون التعايش الصعب متوزّعين على طوائف ومذاهب ومشارب وتيارات. صنع اللبنانيون معا، وبمساهمات متواطئة ومتفاوتة، الشخصية اللبنانية التي تخلط ما بين التقليد المديني الشاطئي، وطقوس الريف الجبلي، وتنهل مما تقذفه أمواج “المتوسط” من ريح ينفخه الغرب، وتتنشق أيّ عبق تحمله رياح الشرق.
تجاوز المسيحيون عدد المسلمين داخل البلد حين أصبح البلد مستقلا، معترفا به في المحافل الدولية. اكتسب المسيحيون فوقية ديموغرافية تزيّن لهم أمر القبض على مسارات البلد، كما لوحوا بفوقية نوعية من خلال ما راكموه من ثروة وخبرة تتصل بارتباطهم الثقافي، وبعد ذلك السياسي، بعالم ما بعد العثمانية. عرفت “المارونية السياسية” تسويق الخصوصية اللبنانية ذات “الوجه العربي” داخل الشرق الأوسط، مستفيدة من تقدم البلد الصغير على البلدان التي كانت تمخر عباب الاستقلالات المترجلة.
اختلف وضع لبنان اليوم عنه منذ أكثر من سبعة عقود هي عمر استقلاله. بات المسلمون يعبّرون عن حاجة للوجود المسيحي، معترفين بأن خصوصية البلد تدين لهذا الوجود. ولم يعد المسيحيون يعتبرون الغرب سقفا ومظلة يقيانهم مزاج الأغلبيات.
يتذكر المسيحيون في بدايات الحرب الأهلية المقيتة حين جاءهم موفد واشنطن دين براون عام 1975 وعرض على الرئيس اللبناني آنذاك سليمان فرنجية صفقة لإخراج المسيحيين من البلد لحمايتهم. أدركوا مذاك أن بقاءهم بات رهنا بأهل المنطقة، فإذا ما استظلوا عرضيا بمصر جمال عبدالناصر في لحظة تقاطع مع واشنطن في ستينات القرن الماضي، فإنهم باتوا يطرقون باب دمشق تارة، وباب طهران تارة أخرى دون أي تعويل على عواصم الغرب البعيد.
يزور الرئيس المسيحي ميشال عون الرياض والدوحة والقاهرة، وهو يدرك ما تبدّل في موقع المسيحيين في لبنان والمنطقة. قد تكون تلك الزيارة سابقة منذ أن كانت الإطلالات الخارجية الأولى لرؤساء لبنان في عهد الوصاية السورية المندثرة تحج إلى دمشق أولا ثم آخرا. ينسلخ عون من فضائه “الممانع″ منذ أن عاد من منفاه الباريسي عام 2005، ويتمرد على أصوله، ويطرق باب الرياض.
تتزعم السعودية ما يطلق عليه بالعالم السني مجاهرة بمواجهة مع إيران التي تتبرع في فرض نفسها راعية لشيعة الأرض. وفي رمزية أولية الزيارة الأولى للرئيس اللبناني، إدراك تام ودقيق للمحيط الذي يعيش فيه لبنان ومسيحيوه. في الأمر إسقاط لعقيدة تحالف الأقليات التي ألصقت العونية بالشيعية السياسية منذ “ورقة التفاهم” مع حزب الله، وإنعاش لعقيدة مارونية لطالما كانت دأب البطريركية الدائم: التعايش مع الأغلبيات.
على أن في الأمر اعترافا صريحا من قبل “المارونية السياسية” الراهنة، على الأقل في الطبعة التي تقدمها “ورقة النوايا” بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، بأن الفضاء العربي هو فضاء لبنان الحقيقي وأن مباشرة عون إطلالته الخارجية من الرياض إقرار بما تمثله السعودية داخل الدائرتين العربية والإسلامية.
وفي الأمر إقرار العونية بخيار “القوات” الدائم في التحالف مع الرياض والتموضع في الخندق المواجه لطهران. وفي الأمر نزوع باتجاه معسكر رئيس الحكومة سعد الحريري بمعنى التحالف والاتّساق مع معسكره، وليس فقط الاكتفاء بالتعايش الصوري معه كأمر واقع. وفي الأمر تسليم العونية بأن وصول ميشال عون إلى بعبدا جاء بمفاتيح سعودية لم يستطع توفيرها ضجيج إيران وصخبه في المنطقة والعالم.
لم تأت زيارة رئيس لجنة الأمن القومي في مجلس الشورى الإيراني، علاءالدين بروجردي إلى بيروت فيما كان الرئيس اللبناني يحزم حقائبه إلى الرياض، إلا للتعبير عن نزق إيراني ممتعض مما ارتكبه الحليف. كانت طهران أول من احتفل بعون رئيسا وأرسلت وزير خارجيتها، محمد جواد ظريف، حاملا ما يشبه “بركة” الولي الفقيه لفوز حليف ممانع، فيما اعتبرت أبواقها أن “الحدث انتصار للمقاومة”. جال موفد طهران قبل أيام على “مستعمراته” داخل الشيعية السياسية في لبنان، قبل أن يطرق باب بعبدا وباب السراي. وقد يكون في بال الحاكم في طهران أن يقول للرئيس اللبناني اذهب أينما شئت “فخراجك عندي”.
على أن إطلالة عون العربية وربما الدولية لاحقا ستزوّد الرئيس اللبناني بجعب يحملها للإطلالة على إيران. لن يبدّل عون تحالفاته، ولن يبتعد عن محور دمشق طهران وامتداداته في “الضاحية”. سيضيف الرئيس اللبناني أوراقا عربية ودولية إلى سلاله على النحو الذي يقي البلد بمعسكراته المتعددة رياح التحوّلات التاريخية الناشطة على تخومه.
سيراقب رجل بعبدا القوي تموضعات تركيا الجديدة باتجاه بغداد وربما دمشق، وسيراقب تموضعات طهران الجديدة في صراعها الخفي المكتوم مع روسيا داخل سوريا. ولئن يجري حزب الله جراحات حدودية تربط “قضيته” بمصير نظام دمشق، فإن رجل المارونية السياسية في بعبدا يعيد ربط قضية لبنان، لا سيما مسيحييه، بمآلات هذه التحوّلات، بمعنى أن يستفيد من نضوجها ولا يدفع ثمن تحققها.
فاز المسيحيون بلبنانهم في اللحظات الأولى التي أذنت لرحيل السلطنة، وهم بالكاد هذه الأيام يعيدون رسم بقائهم بصفتهم ضرورة تخطب ودهم الرياض، وترسل طهران من يذكّرهم بالهوى.
محمد قواص