رغم وسائل العيش الحديثة التي يتمتع بها إنسان اليوم من كل أمم الأرض، إلا أنك تراه يبحث عن حياة الماضين ويحاول التشبه بهم ولو بتزيين مسكنه ب"تحف مهترئة" كان يستعملها الماضون، فيشتريها بأغلى الأثمان ويزين بها بيته أو حتى قصره الحديث مستأنسا برؤيتها والتأمل فيها .
مثال فقط أحببت أن أورده لنستكشف أن "السلفية" هي حالة عامة لدى كل الناس من مختلف الأمم على اختلاف معتقداتها، الإلهية وغير الإلهية .
فما هو سبب هذا الميل الجامح لدى الإنسان إلى كل ما سلف ؟
الجواب بسيط ووجداني، وهو شعور كل جيل بأن الجيل الذي سبقه كان أقرب إلى السعادة والطمأنينة والوداعة وأكثر انسجاما مع مشاعره الفطرية، وأنه كلما تمادى الزمان كلما ابتعد الإنسان عن الأنس بمشاعره الفطرية وحياته الوديعة وباتت حياته أكثر تعقيدا وبعدا عن مشاعره الإنسانية الفطرية الأنيسة بسبب تعقد طرائق العيش وأسلوب الحياة وتحولها -مع تراكم السنين جيلا بعد جيل- إلى حياة مليئة بطرق العيش المصطنعة البعيدة عن مشاعره الفطرية، والتي تزيده اضطرابا يوما بعد يوم على كل المستويات، سواء في تعاطي الإنسان مع أخيه الإنسان، أو في تعاطيه مع تفاصيل الحياة اليومية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومركب، حتى أرهقته هذه الحياة وصار يحن إلى كل ما يذكره بالحياة الطبيعية ووداعتها .
ومن هنا، نرى أن كل بيئة ثقافية تحن إلى سلفها في الحيثيات التي تجمعها كبيئة . فترى الأمة المتدينة مثلا تحن إلى سلفها الديني حتى في طريقة عيشه التي بالأساس هي ليست من ثوابت الدين الذي يعتنقه وليست من مبادئه، بينما ترى البيئة التي تجمعها حيثية فن الغناء مثلا تحن إلى ألحان وآلات الطرب التي كان يعتمدها السلف الذي يشاركها هذا الأمر .
ومن هنا، فإننا لو تدبرنا في عقلية الإنسان في كل جيل، فإننا سنجدها عقلية سلفية تحن بشدة إلى كل ما سلف في ثقافتها، وتراها تبحث عن كل ما يشعرها ولو وهما بأنها ما زالت تعيش مع الماضين في زمنهم، طلبا للأنس المفقود في الحياة الفعلية .
والسلفية الدينية لم تشذ عن هذه القاعدة، فترى الكثير من أتباع الأديان السماوية يحاولون تقليد أسلافهم -الذين يشاركونهم في المعتقد- حتى في طريقة اللباس والمظهر الخارجي والسكن والتعاطي الإجتماعي . وقد وصل الأمر بالبعض بسبب شدة حنانهم لحياة سلفهم الوديعة إلى جعل طرائق عيش الماضين جزءا من الدين والتشريع، فوقع الصدام بينهم وبين ثقافة العصر الذي يعيشون فيه، حتى ترجموا ذلك مواجهات دموية بإسم الدين بسبب شدة حنانهم لوداعة عيش من سبقهم، حتى جعلوا طريقة حياتهم الوديعة جزءا من الدين والتشريع، وأن القتال لإعادة طريقة العيش الوديعة تلك هو جهاد في سبيل الله تهون لأجله الارواح !!
لذلك، يجمع كل فلاسفة علم الإجتماع بعدما رأوا النفور العام من طرائق العيش الحديثة بسبب ما تورثه هذه الطرائق من اضطرابات نفسية بسبب معاكستها للفطرة البشرية التي تحن إلى الهدوء والوداعة والألفة ومحبة الغير والأنس به، والذي تفتقده الحياة المعاصرة، يرى هؤلاء الباحثون أن الحياة على ما هي عليه اليوم لن تستمر كثيرا، وأن زوالها بات قريبا، إما بحروب شاملة ستكون نتيجة للمشاعر الإنسانية الحالية المضطربة، فتدمر هذه الحضارة التي أرهقت الإنسان وجعلته شبيها بالآلات الفاقدة لأي شعور، أو عبر أحداث طبيعية تزلزل الحضارة الحديثة وتدمرها وتعيد حياة الإنسان إلى حالتها الترابية الوادعة .
أخيرا، إذا كانت السلفية تعني وداعة العيش ومنظومة التآلف والتراحم بين الناس وأن تعود الأسر والأرحام لتآلفها وأن يوقر الصغير الكبير ويرحم الكبير الصغير ويعود الإنسان ليرى في أخيه الإنسان أنه نفسه التي يجب أن يحافظ عليها، فكلنا سلفيون .