في تشرين الثاني عام 2014 وصَلت وثائق دامغة إلى مرجع سياسي لبناني من جهة محترفة تؤكّد سرقة إسرائيل كمّيات من الغاز اللبناني عبر أنبوب يمتد في المياه الإقليمية اللبنانية المتاخمة للحدود مع فلسطين المحتلة. وهدّد المرجع بكشف هذه الوثائق في بداية العام التالي (2015).كانت هذه الرسالة كافية للسفارة الأميركية في بيروت لكي تتحرّك في الكواليس وتعلن أنّها ستتدخّل لإيقاف الاعتداء الإسرائيلي، وتسوية هذا الأمر، طالبةً عدمَ الذهاب الى التصعيد السياسي.
وهكذا طويَت صفحة نقلِ النزاع اللبناني ـ الاسرائيلي حول الغاز الى العلن، وأعيدَ الى كواليس المفاوضات غير المباشرة بين بيروت وتل أبيب، والتي تقودها واشنطن.
منذ تأليف الحكومة السلامية، انكفأت اميركا تدريجاً عن دورها الراعي لمفاوضات حلّ النزاع اللبناني ـ الاسرائيلي لترسيم حدودهما النفطية البحرية، علماً انّ واشنطن كانت، عبر فريدريك هوف، قدّمت نفسَها أيام حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وسيطاً متحمّساً لإنجاز تسوية لهذا الملف.
وأكثر من ذلك اقترح هوف، بحسب محادثة ديبلوماسية معه، أن يتمّ بناء شراكة حلّ لأزمة ترسيم الحدود البحرية الاسرائيلية ـ اللبنانية مع ميقاتي، الذي نصَح بلده بأن يترك له شخصياً توقيت اللحظة اللبنانية السياسية المناسبة التي تبدأ فيها بيروت بفتح مناقصة تلزيم التنقيب عن النفط أمام الشركات المتنافسة.
تخلّى هوف عن مهمة الوسيط في نزاع الغاز اللبناني ـ الاسرائيلي بسبب تقدّمِه في العمر، فيما خليفتُه تلكّأ أخيراً عن الاستمرار في هذا المسعى. وكان مسعى هوف الاميركي التوسطي، وصَل لحظة تخلّيه عن مهمته الى نقطة الاصطدام بالحائط الاسرائيلي الذي رفضَ تطبيق مقترحه القاضي بإنشاء «ممر أزرق» يضمّ الحقول المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، بحيث لا يقدِم أيّ من الطرفين على الاستثمار والتنقيب فيها، ريثما يتمّ إيجاد حلّ لها، وفي المقابل يستثمر الطرفان في الحقول غير المتنازَع عليها.
يقول هوف إنه طرَح حلّ «الممر الأزرق» على المسؤولين اللبنانيين المعنيّين بهذا الملف، ويؤكّد أنه «لم يسمع أيّ شخصية منهم سجّلت تحفّظاً عنه». غير أنّ الرفض جاء لاحقاً من إسرائيل، وكان ردّ واشنطن عليه، هو نصيحة بيروت بضرورة الإسراع ببدء تلزيم مناقصات التنقيب عن نفطه، لأنه الحلّ المتبقّي لحفاظه على حقّه في ثروته النفطية.
آنذاك لم يكن الوضع السياسي اللبناني الداخلي مؤهّلاً للاستجابة للنصيحة الاميركية، فالحكومة السلامية اتّسَمت وظيفتُها بـ«فصل الاشتباك الداخلي»، وكانت مستغرقةً في مواجهة ملفات داخلية داهمة وساخنة، كقضايا الجنود المخطوفين لدى «داعش» و«النصرة» ومن ثمّ أزمة النفايات والحراك المدني، الخ.
وفي ضوء إقدام الحكومة الأولى للعهد الجديد على السير بنصحية البدء بلتزيم التنقيب عن الغاز اللبناني، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو، ما الذي تغيّر الآن؟ هل التغيير خارجي أم داخلي؟ وما هي آفاقه لجهة مدى قدرته على السير قدماً بهذا الملف ذي الطابع العالمي والداخلي على حدّ سواء؟
واضحٌ أنّ تحديد قرار الحكومة تلزيم ثلاثة بلوكات في الجنوب، من ضمنِ البلوكات الخمسة المعروضة للتلزيم، إنّما يعني أنّ فتح هذا الملف الآن يتمّ ضمن استراتيجية تضع على رأس أهدافها الاستجابةَ للنصيحة الاميركية بضرورة فتحِ باب التلزيم، بصفته الطريقةَ المتاحة والأفضل لوقف استمرار محاولات اسرائيل لسرقة غاز لبنان.
ولكن ماذا بعد إقرار خطوة التلزيم؟ بمعنى آخر: أيّ خيار سيقرّر لبنان في شأن الأسواق التي سيصدّر إليها غازه؟ وعبر أيّ خطوط دولية؟ وماذا عن حصة التنمية الداخلية من موارده، وما هي ضمانات الشفافية في صرفها؟
إختارت الحكومة اللبنانية تأجيل الإجابة عن هذه الاسئلة تحت مبرّر اتّباع اسلوب التمرحل في ذهابها لاستكمال مشروع الاستثمار الكلّي لغاز لبنان، وذلك من طريق التوافق الداخلي عليه مرحلةً بعد مرحلة ونقطةً بعد نقطة.
وهذا أسلوب في مقاربة الملف يعكس أنّ الإجازة الدولية المعطاة لبيروت بالسير في مشروع التنقيب عن غازها، هي إجازة مشروطة بهدف أساسي، وهو إعاقة اسرائيل بوسيلة سلمية عن استمرارها في تعدّياتها على غازه.
أمّا خيارات لبنان التالية حول طريقة استكمال هذا الملف فلا تزال غيرَ محسومة دولياً إلّا في نقطتين؛ أولاها أنّ غاز لبنان يجب ان يتفاعل ضمن رؤية واشنطن لموقعه المقبل في خريطة «النزاع الدولي» أو «تقاسم النفوذ الدولي» لغاز الحوض الشرقي من البحر المتوسط.
وهذا أمر يمكن الاستدلال عليه من الآن، من خلال انّ الشركات المصنّفة لبنانياً بصفتها مقبولة لخوض مناقصة التلزيم هي كلّها غربية، وليس بينها شركات روسيّة أو صينيّة أو إيرانية.
والثانية، أنّ غاز لبنان أمامه خياران حتى الآن، لإيجاد حلّ لنزاعه مع اسرائيل، إمّا القبول بنظرية «الممر الأزرق»، وهذا اقتراح رفضَته اسرائيل ولم يتحفّظ عنه لبنان بحسب هوف. وإمّا الموافقة على تطبيق «نظرية التوحيد»، أي «إعارة سيادة لبنان» على بيع نفطه وغازه والتفاوض حول تحديد حصّته منه، إلى الشركات الملزمة بالتنقيب والاستثمار فيه والمخوّلة جنيَ محاصيل البيع وإعطاء لبنان حصّته منها.
وعلى هذا يبقى للدولة من منظار ما هو مطروح حتى الآن مِن حلول لطريقة إدارة قطاعه النفطي، مجال وحيد يوجد لديها سلطة عليه، وهو كيف ستوظّف ما تَجنيه من موارد هذا القطاع، وهل ستتبع في صرفها، معاييرَ الشفافية التي لها مدخل إجباري، وهو إنشاء «الصندوق السيادي» الذي تجمع فيه محاصيل موارد قطاع الغاز المالية، مقدّمة لتحديد نسَب الصرف منها على كلّ قطاع تنموي.
ثمّة إشارة مشجّعة في هذا المجال تتمثّل في أنّ الرئيس ميشال عون خلال جلسة الحكومة، أصرّ على ضرورة إنشائه، علماً أنّ الخبراء يؤكّدون أنّ إنجازه يجب أن يواكب مسيرةَ التوجّه لاستثمار ثروة لبنان من الغاز منذ بدايتها، لأنّ ذلك يشكّل ضماناً مبكراً لتحاشي تمييع فكرته ووظيفته ويَحول دون إخضاعه لتسويات المحاصصة الداخلية.