ساهمت سلسلة الهجمات الدموية التي عاشتها تركيا خلال الأشهر القليلة الماضية في تسليط الضوء على نجاعة البنك المعلوماتي لأجهزة الأمن التركية في ظل الهجمات المعقدة التي نجحت عناصر تنظيم حزب العمال الكردستاني وتنظيم "داعش" في تنفيذها.
وبعد الهجوم الأخير على ملهى "رينا" الليلي في مدينة إسطنبول الذي نفذه قاتل محترف لم تتمكن السلطات التركية من إلقاء القبض عليه بعد، وقيل إنه ينتمي لتنظيم "الدولة الإسلامية (داعش)، ظهر نقاش على وسائل الإعلام التركية عن احتمالات "وجود خلل ما" في الأجهزة الأمنية للبلاد.
وبعدما نجح القاتل في هجوم إسطنبول من تجاوز كل النقاط الأمنية والخطط التي وضعتها الشرطة لتأمين الاحتفالات بالعام الجديد وهو يحمل كل أسلحة وعتاد الجريمة معه، أعاد محللون وخبراء أتراك مراجعة الخطط الأمنية التي وضعها المسؤولون لتأمين الولاية في تلك الليلة في محاولة لكشف مكامن الخلل فيها.. وهنا نرصد لكم أبرز ما تناولته وسائل الإعلام التركية في هذا الصدد.
تأمين إسطنبول ليلة الهجوم
لم تكن الخطة التي نفذتها مديرية أمن إسطنبول لتأمين المدينة خلال احتفالات استقبال العام الجديد عادية، فلقد نشرت أكثر من 17 ألفاً من عناصرها في شوارع وأزقة المدينة الأكثر حيوية.
ووفقاً لصحيفة "صباح" التركية المقربة من الحكومة، فإن الخطة شملت إعلان حالة التأهب القصوى في صفوف الأجهزة الأمنية والطواقم الطبية وطواقم البلديات ورجال الإطفاء.
وتضمنت الخطة كذلك التدابير اللازمة لضمان منع أي انقطاع في الكهرباء والماء وخطوط الغاز الطبيعي، مع طواقم من العاملين الحكوميين لمواجهة أي طارئ.
وفي الليلة الأخيرة من 2016، نشرت الشرطة عناصرها متنكرين بزي "بابا نويل" وبائعي الكعك التركي في الأسواق وبين المواطنين في محاولة لكشف أي هجوم قد يستهدف المدينة.
وإلى جانب ذلك، كانت هناك كاميرات المراقبة المنتشرة بكثافة في أنحاء المدينة والتي تعتمد عليها الشرطة عادة لتعقب وكشف الجرائم والهجمات المحتملة.
قد يرتكب مجزرة أخرى
كل ما سبق، لم يمنع القاتل أن يتسلل هو الآخر في طمأنينة داخل سيارة تاكسي لينزل أمام الملهى الليلي لينفذ جريمته.. فأين الخلل؟!
الكاتب التركي عبد القادر سيلفي، تحدث في مقال بجريدة "حرييت" المدافعة عن أطروحات التيار العلماني الثلاثاء 3 كانون الثاني 2016 عن التحذير الذي أصدرته السلطات الأميركية عن وجود معلومات استخباراتية عامة حول هجمات إرهابية متوقعة، يخطط تنظيم "داعش" لشنها في مناطق حيوية في العاصمة التركية أنقرة ومدينة إسطنبول.
وقال إن السلطات التركية "تحركت على الفور واعتقلت خلية لداعش مكونة من 8 عناصر في أحد أحياء العاصمة أنقرة"، إلا أنه تساءل إن كان بمقدور قوات الأمن فعلا أن تصل لتلميح حول مكان الهجوم بإسطنبول "لو أخذنا المعلومات التي قدمتها المخابرات الأميركية بالحسبان؟".
وبعد حديثه عن احترافية القاتل وطريقة تجاوزه لنقاط التفتيش الثلاث التي نُصبت في المكان، قال إنه "لا يستطيع إلقاء اللوم على عناصر الأمن الذين تواجدوا في المكان، لأن القاتل جاء بسيارة أجرة عادية وهو ما أبعد عنه الشبهات"، على حد تعبيره، لكنه يعود ويتساءل "هل تلقى منفذ الهجوم دعماً من الداخل؟" في إشارة لهروب القاتل بعد 7 دقائق من دخوله بسلاحه الملهى الليلي.
ويختم سيلفي مقاله مؤكدا أن حرفية القاتل وطريقة تنفيذ المجزرة، إضافة لاختيار المكان، كلها تشير إلى تورط تنظيم "داعش" في تنفيذ الهجوم.
ويوصي سيلفي بضرورة الاعتماد على استراتيجيات جديدة في محاربة التنظيمات الإرهابية بعدما طورت الأخيرة على حد قوله "مفاهيم جديدة في عالم الإرهاب".
تساؤلات سيلفي فيما يتعلق بمرور القاتل من نقاط التفتيش تقاطعت مع ما ذكره عبد الله جان ساراتاش، أحد العاملين في الملهى الليلي، والذي أعرب لصحيفة "حرييت" عن دهشته من تمكن المسلح من عبور نقاط التفتيش وأكثر من 400 من كاميرات المراقبة المتواجدة في المكان دون أن يظهر في أي منها خلال اللحظات الأولى التي تلت الحادثة.
الخطة المتقنة
وناقش ضيوف برنامج "منطقة محايدة" الذي تبثه قناة سي إن إن ترك ويقدمه الصحافي التركي أحمد هكان، وهو أيضا واحد من أشهر كتاب العمود في البلاد، الطريقة التي تنقل من خلالها المسلح داخل المدينة بحرية تامة بالرغم من الإجراءات الأمنية المشددة.
واعتبر اللواء المتقاعد أحمد يافوز الذي كان أحد الضيوف على البرنامج، أن الأمن "قام بدوره على أكمل وجه، لكن الطريقة التي استخدمها القاتل والمتمثلة في استقلاله لسيارة أجرة عادية صعب مهمة اكتشافه".
وخاطب محاوريه في البرنامج قائلاً: "هناك أكثر من مليون سيارة في شوارع إسطنبول، هل يعقل أن تفتشها الشرطة جميعها؟"، مضيفًا إن تفتيشها يحتاج لأكثر من 100 ألف شرطي وهو ما يستحيل تحقيقه على حد تعبيره.
وأشار يافوز إلى أن الحديث هو عن مدينة يبلغ عدد سكانها 17 مليوناً، "لهذا فإن المهمة ليست سهلة كما تظنون".
أما الخبير الأمني إيراي جوتشلوير فيرى أن محاولة الانقلاب الأخيرة التي شهدتها تركيا "أضعفت بشكل أو بآخر المخابرات التركية"، مستدلاً على ذلك بـ"عدم قدرتها على التعامل مع الهجمات الأخيرة التي نفذتها تنظيمي حزب العمال الكردستاني وداعش داخل تركيا".
وأكد جوتشلوير أن الحل الأمثل للتغلب على التنظيمات الإرهابية هو "اتباع نظام أمني خاص بكل ولاية في تركيا وتقوية العناصر التي تقاتل التنظيمات الإرهابية في المناطق التي تنشط فيها".
موقف المعارضة
بعد مرور ساعات قليلة على مذبحة إسطنبول، خرج زعيم حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض كمال كاليتشدار أوغلو، ودان الهجوم بشدة معرباً عن أسفه "للحالة التي تعيشها بلاده".
واتهم الرجل السلطات بالتقصير في خطتها لإدارة الأزمة ومكافحة الإرهاب، قائلا في بيان نشر عبر الهجوم إن "الإجراءات الأمنية المشددة التي أُعلن تنفيذها أو ستنفذ تُعطي التنظيمات الإرهابية الشجاعة أكثر فأكثر لتنفيذ هجماتهم".
عدلوا القانون
وفي ظل احتدام النقاش حول التقصير الأمني المحتمل، طالب محمد كوتش أرسلان، صاحب الملهى الليلي الذي تعرض للهجوم، السلطات في بلاده بتعديل القوانين التي لا تسمح لرجال الأمن والحماية بحمل السلاح داخل المطاعم والملاهي الليلية في تركيا.
وأكد كوتش أرسلان أن حارس الملهى الليلي لم يكن مسلحاً وأنه لم يستطع مقاومة المهاجم الذي أرداه قتيلاً على الفور.
وتابع كوتش أرسلان في تصريحات لوكالة دوغان المحلية المعارضة أنه لم يتلق أي معلومات استخباراتية قبل وقوع الحادث، مشيراً إلى أن المعلومات التي حصل عليها كانت معلومات عامة نشرت في الصحف ووسائل الإعلام التركية.
ووصف صاحب الملهى الذي صار الأشهر في عام 2017 القاتل بـ "إبليس" في إشارة إلى الطريقة التي تجاوز بها الإجراءات الأمنية قبل أن يهرب.
وختم هذه الحادثة وما رافقها من انتقادات لأجهزة الأمن أعادت للأذهان الانتقادات التي وُجهت لشرطة إسطنبول بعد أن قتلت الشرطي مرت ألتنتاش بعد اغتياله السفير الروسي في أنقرة أندريه كارلوف في 19 كانون الأول 2016، وهو ما اضطر الرئيس التركي للتدخل آنذاك لتبرير قتله وعدم إلقاء القبض عليه حياً.