يُطبخ برنامج ترسيخ نظام عالمي جديد منذ عقود، على نار هادئة. وتُعتبر حلب نقطة انطلاق الملامح الأولى لهذا النظام الذي تقوده كل من روسيا وإيران، في ظل غياب القوى الغربية التقليدية، وتحديداً الولايات المتحدة وأوروبا.
مثّل كل من النظام السوري وحليفه الروسي إلى جانب إيران منعطفاً استراتيجياً مهماً قلب مفهوم العلاقات والمصالح الدولية، رأساً على عقب. ويُعتبر هذا الانتصار مهماً، لأنه -وبحسب ما ذكرت صحيفة Le Figaro الفرنسية- جاء بعيداً عن أي تدخل أو حضور للعالم الغربي رغم عودة منطق "سياسة القوة"، ليطفو من جديد على ساحة الجيوسياسية في الشرق الأوسط، لكن لا يعني ذلك بالضرورة نهاية الحرب.
ما الأطراف المنتصرة؟
إن عدد الأطراف المنتصرة يمكن حصرها في النظام السوري وإيران وروسيا. وقد ساهم التدخل العسكري الروسي في إنقاذ نظام بشار الأسد وحقق للكرملين مكاسب سياسية كبيرة من بينها تركيز قاعدة عسكرية في اللاذقية تمثل عين روسيا على الشرق الأوسط.
كذلك، ساهم هذا التدخل العسكري الروسي في ضمان عودة موسكو بقوة على الساحة السياسية الدولية. وفي الحقيقة، أراد الروس بدعمهم للنظام ومحاربتهم للمعارضة المسلحة بعث رسالة مفادها أن روسيا ستقف في وجه كل من يعمل على الإطاحة بالأنظمة الحاكمة الموالية لها، ليس في الشرق الأوسط فقط، ولكن في دول الاتحاد السوفييتي السابق أيضاً.
استغلت موسكو دورها في الحرب السورية لتدفع الجميع نحو الجلوس على طاولة المفاوضات التي ستترأسها بعد أن دفعت حليفها السوري ومعارضيه للبحث عن مخرج سياسي مناسب.
حافظت روسيا منذ تدخلها في الأزمة السورية على مسيرة وردية دون ارتكاب أي أخطاء سياسية مع حسن اختيار الوقت (الانتخابات الرئاسية الأميركية). وخلال سنة واحدة، كشّر الدب الروسي عن أنيابه ليظهر في صورة قوة عالمية مسيطرة على اتخاذ القرارات، وتتقن استغلال الفراغ السياسي الذي تركته إدارة باراك أوباما. كما استطاعت روسيا أن تفرض على أطراف النزاع السوري الحرب والسلام في نفس الوقت.
أما إيران باعتبارها الشريك الثاني في الانتصار، فقد هبت لإنقاذ النظام السوري بشتى الطرق السياسية والمالية والعسكرية مع استعمال حزب الله الشيعي، ذراعها العسكري في لبنان، كجدار صدّ في حماية النظام السوري. ونجحت إيران في تركيز حلف شيعي يبدأ نفوذه من العراق ويمر بلبنان، لينتهي في سوريا. وقد استغلت هي الأخرى الفراغ السياسي الذي تركه الأميركيون، لتبرز كقوة إقليمية مؤثرة في الشرق الأوسط.
وفي المقابل، لا يمكن اعتبار الحلف الروسي الإيراني أبرز قوة مسيطرة على أحداث الحرب السورية، بل نجد أيضاً، تركيا، التي تدخلت لوضع حد لطموحات طهران في سوريا، ووضعت المعارضة أمام طريق مفتوح للحوار.
وتجدر الإشارة إلى أن روسيا قدمت مزايا للأتراك في خضم الأزمة السورية، وهو ما يراه مراقبون أشبه بعملية "تبادل". وعموماً، تقف روسيا سداً منيعاً في وجه الأطماع الكردية خلال هذه الحرب. وفي نفس الوقت، تحركت تركيا من أجل تغيير نظرتها العدائية تجاه بشار الأسد.
الأمم المتحدة.. صمت القبور
منذ بداية الحرب السورية، جعل كل من الفيتو الروسي والصيني كل قرارات مجلس الأمن "هباء تذروه الرياح". وقد استعمل الروس والصينيون الفيتو في 6 مناسبات متتالية لإحباط قرارات أممية تهدف إلى تطبيق وقف إطلاق النار، والتأكد من وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق السورية المنكوبة.
لم تعد مبادئ الأمم المتحدة أمراً يجب احترامه، بل أصبحت مجرد مبادئ تُداس تحت أقدام القوى الكبرى. كما أصبحت حقوق الإنسان وعدم التدخل في شؤون الدول والقوانين السلمية التي تربط بين الدول، مجرد شعارات بلا معنى، فالمصالح تعلو دائماً فوق كل اعتبار.
وفي هذا السياق، يرى الباحث الزائر في برنامج كارنيغي للشرق الأوسط، جوزيف باحوط "أن الأمم المتحدة بمثابة القوقعة الجوفاء التي تصدر صوتاً دون أي فعل، لأننا نعيش عصراً من "استعراض العضلات"، فالكلمة الأخيرة للطرف الأقوى، وهذا ما فهمه فلاديمير بوتين".
لم تعط موسكو اعتباراً لقوانين الأمم المتحدة عندما اقتحمت شبه جزيرة القرم قبل أن تدفع بقواتها المسلحة نحو سوريا. وعلّق الأخصائي في العلوم الاستراتيجية، نيكولاس تنزر، حول هذا الموضوع في أحد مقالاته في موقع هافينغتون بوست، قائلاً إن "زمن ضبط النفس قد ولّى، وعادت القوى العالمية مرة أخرى للتسابق من أجل بسط نفوذها على العالم".
وأضاف: "نحن شهداء على حرب تقودها روسيا للسيطرة على منطقة إقليمية كاملة. وقد شرعت في هذه الخطوة منذ بداية الحرب العالمية الثانية. وأكد الانتهاك الروسي لميثاق الأمم المتحدة أن فكرة "توازن القوى العالمية" أصبح من الماضي. ومن جهتها، قدمت فرنسا مقترحاً للتخلص من "معضلة الفيتو"، وذلك بالتقليص من تأثيره في حالة ثبوت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وفي المقابل، ما زال هذا المقترح مجرد حبر على ورق".
هل هي نهاية السيطرة الغربية؟
مثّل سقوط حلب نقطة تحول استراتيجية بالغة الأهمية في مسار العلاقات الدولية. كما ساهم هذا السقوط في إنشاء نظام عالمي جديد مرتكز أساساً على مبدأ "استعراض القوى"، في الوقت الذي يبدو فيه أن القوى الغربية قد فقدت هيبتها الدولية.
وفي هذا السياق، نظّم بوتين لقاءً في كازاخستان، وليس في جنيف، دعا إليه كلاً من تركيا وإيران دون أن يوجه الدعوة إلى الولايات المتحدة، أو أوروبا، ولا حتى الأمم المتحدة للتفاوض بشأن الأزمة السورية.
وقد صرح وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، بأن "كل المحاولات السابقة التي قام بها الأميركيون وشركاؤهم، باءت بالفشل. وعموماً، فقد تبين للعالم أنهم لا يملكون أي تأثير على أرض الواقع".
تُعتبر "الحرب السورية" أول الأزمات الدولية التي تشهد غياباً للتدخل الغربي. وأكد جوزيف باحوط أن "النظام العالمي الجديد هو مشروع ضمني بصدد الإنجاز، فقد ساهم النظام العالمي الجديد في بروز سياسة أميركية جديدة (في عهد أوباما)، اتسمت بالتردد والخيبة".
لقد أدرك أوباما قبل غيره أن الهيمنة الغربية في عملية اتخاذ القرار قد أخذت في التراجع إلى الوراء. وقد تُرجم ذلك في سياسته الخارجية تجاه الوضع السوري والتي حطت من قيمة الهيمنة الغربية، وساهمت في ولادة قوى جديدة.
بعد نظرية الثنائيات خلال الحرب الباردة، أصبحنا نعيش الآن على وقع نظرية جديدة تمهد لمفهوم جديد للقوى العالمية. ونتيجة لذلك، وضعت الأزمة السورية حداً للتدخل الغربي العسكري في الشرق الأوسط الذي كثيراً ما كانت نتائجه مخيبة في العراق وأفغانستان وليبيا.
ما مستقبل الشرق الأوسط؟
يبقى مستقبل سوريا أمراً غير واضح، ففي حال نجحت بعثات السلام من جديد، تحت وصاية روسية إيرانية، فإن بوتين سيتباهى بما حققه من إنجازات على رأسها الحفاظ على النظام السوري في المناطق الخاضعة لسيطرته. وفي المقابل، لم تنجح روسيا في طرد كل من المعارضة المسلحة وتنظيم "داعش" من المناطق السنية التي يهيمنان عليها.
من جهة أخرى، يُخفي الاتفاق المعلن بين الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، ونظيره الروسي طابعاً رمزياً يبشر بقيام نظام عالمي جديد، لكن هل يؤثر ذلك على تضارب المصالح بين البلدين؟ ربما تصبح سوريا، أفغانستانَ جديدة خاصة مع تقدم تنظيم "داعش"، أو مسرحاً لمعارك أكثر دموية بين السنة والشيعة، خصوصاً مع توسع إيران في عدة دول عربية، وليس سوريا فقط. وبالحديث عن تنظيم "داعش"، فإن هناك مخاوف دولية من خروج حركات أخرى مسلحة تدعم أفكاره، ما سيدفع الشرق الأوسط لمواجهة حالة جديدة من "عدم الاستقرار". "مات النظام العالمي القديم في حلب، لكن النظام العالمي الجديد ما زال في طور البناء".
وفي انتظار كشف المستور، لا يُعتبر المدنيون السوريين أو الغرب ولا حتى الأقليات، الطرف الخاسر الوحيد بعد انتصار إيران وروسيا في سوريا، إذ إن دول الخليج تواجه مخاوف تنذر ببداية مرحلة جديدة من عدم الاستقرار.