زرت واشنطن عشية الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ومع أن جدل الساعة كان يدور حول الحملة الانتخابية، فالنقاش مع الخبراء القريبين من الكونغرس والبنتاغون، كما مع أوساط وزارة الخارجية، كان يشي بالهواجس الحقيقية لـ «أميركا العميقة» والتي تتجاوز مسألة الإرهاب والتوتر في العلاقة مع روسيا. وفي كل مرة كان النقاش يصل إلى قاع أي ملف، كان سهلاً الاستنتاج أن الصين ماثلةٌ بصفتها التحدي الأول.
فلم يكن مشروع القرار الذي أعدته نيوزيلندا ومصر وإسبانيا في شأن سورية يحتاج لاستخدام الصين حقّ النقض لإجهاضه (5/12/2016). فقد كان «الفيتو» الروسي كافياً لذلك. إلا أن بكين أرادت من خلال النافذة السورية الإدلاء بدلو واضح في سعي إلى استباق ما يلوّح به الرئيس الأميركي المنتخب ضدها.
لم تهضم العاصمة الصينية «ارتكاب» الرئيس ترامب محظوراً لا سابق له منذ عهد الرئيس جيمي كارتر. ولم يكن اتصال ترامب برئيسة تايوان زلة عارضة بل جاء متكاملاً ومنطقياً مع الحملة التي شنّها الرجل إبان حملته انتخابية. وإذا ما حاول نائب الرئيس المنتخب مايك بينس التخفيف من معنى التواصل الهاتفي مع تايوان ووضعه في إطار «المجاملة»، فإن واشنطن بدأت، من خلال ترامب، مصرحاً ومغرداً، التلويح بالخيارات التي يمكن أن تلجأ إليها لكبح جماح صعود الصين وما يشكله ذلك من منافسة وتهديد للولايات المتحدة.
لا يمثل ترامب انقلاباً كبيراً في سياسة الولايات المتحدة الأميركية إزاء التحدي الصيني. ربما حملت عروض الرئيس المنتخب مشهديات لافتة، إلا أن أولويات الأمن الإستراتيجي في مقاربة «الحالة» الصينية باشرتها إدارة الرئيس باراك أوباما، حتى أن الخبراء الإستراتيجيين رأوا أن «عقيدة أوباما» في مسألة «الانسحاب» من وحول الشرق الأوسط، تأتي فقط لمصلحة التركيز على جنوب شرقي آسيا وبحر الصين.
لا تخشى الولايات المتحدة في الأجل القصير من تمدد عسكري صيني يقلب الخرائط الدولية على حساب حصتها ووزنها الدوليين. بيد أن الصعود الاقتصادي المتعاظم لهذا العملاق الديموغرافي الكبير سيتطوّر حتماً باتجاه حماية المنجز الاقتصادي بأمر واقع عسكري. تكتفي الصين حالياً بتمدد جغرافي اقتصادي في آسيا وأفريقيا وحتى أميركا اللاتينية، فيما تغزو منتجاتها أسواق العالم فارضة حقيقتها كمسلّمة لم يعد الاقتصاد العالمي قادراً على مواجهتها أو حتى الدوران من دونها. وفيما حجم الاقتصاد الأميركي (16.2 تريليون دولار) لا يزال أكبر من ذلك الصيني (8.2 تريليون)، فمعدلات النمو المتسارعة للصين ستنهي تلك الفجوة خلال السنوات المقبلة.
الهوة إذن ذاهبة إلى تقلص وستختفي خلال العقود المقبلة. تعرف واشنطن ذلك وتراقب الخطوط البيانية المقلقة المنبعثة من مصانع الصين ومرافئ التصدير. وتعرف إدارة أوباما كما إدارة ترامب، قيد التشكّل، أن الخطر الحقيقي على الولايات المتحدة ليس مصدره تقدم روسيا - بوتين اللافت، بل حسابات ذلك في إطار الصراع مع الصين.
وعلى رغم أن رأس جبل الجليد في التوجّس الصيني الأميركي المتبادل يأخذ تعبيرات اقتصادية، فالبلدان لا يستبعدان من خططهما الصدام العسكري ويستعدان لاحتمالاته. حتى أن مؤسسة «راند» الأميركية أعدت تقريراً لمصلحة البنتاغون يعتبر أن خسائر الولايات المتحدة نتيجة أي حرب تنشب الآن ستكون أخف بكثير من نتائجها في حال نشبت بعد 10 سنوات، ذلك أن الصين ستتمكن في 2025 من ردم الهوة بين مستويي الأداء العسكري، علماً أن في الذاكرة حرباً نشبت بين البلدين في الخمسينات في شبه الجزيرة الكورية ذهبت إلى حدّ تهديد الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور الصين باستخدام السلاح النووي بسبب النزاع حول تايوان بالذات.
تستحضر الصين هذه الذاكرة في رفضها اتفاق كوريا الجنوبية والولايات المتحدة على نشر منظومة صواريخ «ثاد»، ولا تستسيغ حجج واشنطن وسيول عن أن مقاصد الأمر وقائية من أخطار كوريا الشمالية. ترامب نفسه لم يمضغ كلماته حين أعتبر أن أمر كوريا الشمالية هو في يد بكين ولا داعي للزعم بغير ذلك. وبالتالي فإن ردع كوريا الشمالية هدفه النهائي صيني، تماماً كما هي منظومة الردع الصاروخي في أوروبا ذات المقاصد «الإرهابية الإيرانية» التي لا تفهمها موسكو إلا روسية الأهداف.
لا تعرف الصين كما لا يعرف العالم العناوين الحقيقية للسياسة الخارجية لإدارة ترامب. كل ما تبني عليه العواصم توقعاتها لا يعدو، حتى الآن، كونه كومة تصريحات ومواقف وتغريدات أطلقها ترامب المرشح في موسم انتخابي يجوز فيه كل الكلام. لكن بكين التي بدأت تتفحص الوجوه الأولى لإدارة الرئيس المقبلة بدأت تستشعر ما يتجاوز التصريحات المسطحة وتخشى اعتماد إستراتيجيات عدائية تبدد الحدود الرمادية والضبابية التي كانت تدير العلاقة الملتبسة بين بكين وواشنطن. كما أن الصين أضحت تدرك أن سابقة التواصل الرئاسي بين الولايات المتحدة وتايوان ليست إلا اختباراً استكشافياً يستدرج تفحص الردود الصينية وأحجامها، بما يستدعي مقاربة الأمر بسبل أخبث تتجاوز مسائل الاحتجاج الديبلوماسي «الشديد».
في أحد نقاشاتي في واشنطن مع أحد الباحثين القريبين من دوائر القرار الأميركي، اعتبر أن أمام واشنطن خيار إضعاف روسيا لشطبها من الحسابات الصينية في سياق الصراع الصيني الأميركي، أو خيار استمالة روسيا لسحبها من الرصيد الصيني في موازين القوى. ولاحظ أن الهاجس الصيني هو المعيار في الخيارين. قد تتّسق مقاربة ترامب «الودودة» مع الخيار الأخير، لكن الصين في الفيتو الأخير في شأن سورية أرادت تعظيم تضامنها الكامل مع الموقف الروسي كما تغليظ موقفها المناكف لذلك الأميركي. فمن يفتح صندوق تايوان العتيق عليه أن لا يصعق بخروج روائح لا تحتمل.
محمد القواص