عندما يعدّد الصحافي الميداني الميليشيات العاملة لحساب إيران، يقول "ميليشيات لبنانية وأفغانية وعراقية..."، محدّدا بذلك الهوية "الرسمية" أو الإسمية للفرق المسلحة المؤتمرة بأمر "الحرس الثوري" الإيراني في سوريا. وعندما يجيب النائب اللبناني على مناوشات نظيره حول صحة الهوية اللبنانية لـ"حزب الله"، يعلن هو أيضاً، رسمياً وإسمياً انه "لبناني"، ان حزبه لبناني، وان لا مجال لشك...الخ. واقع الحال، انكَ لو استثنيتَ المنطقة الجغرافية التي يأتي منها مسلحو "حزب الله"، من قرى وبلدات لبنانية، لا شيء يوحي بأن "حزب الله" لبناني، أو ان أعضاءه يجاهدون من أجل لبنان، أو أنهم يحملون البندقية من أجل لبنان. أمينه العام، حسن نصر الله، لا يتوقف عن التكرار في خطبه، بأنه يعمل بأوامر "الولي الفقيه"، وبأنه يعتزّ بذلك، ولا يخفيه... كما أخفاه، وتلاعب به، طوال سنوات المجد الأولى. "حزب الله" ليس لبنانياً، ولا قلبه أو مشروعه أو تطلعاته أو مناخه... من صنع لبنان. حتى لو أحب السيطرة على جباله ووديانه، أو إستملاكه، والتحكّم بمجرياته، والقبض عليه بيد من حديد.
وليس "حزب الله" حزباً عربياً أيضاً. ينطق أعضاؤه وقادته باللغة العربية، بحكم الميراث. لكن كل الباقي إيراني: الطقوس الدينية التي أدخلها إلى بيئته، النهج، الهندام، الأغاني، المسلسلات الدرامية... والأهم من كل ذلك الهدف والطموح. في زمن تقيته القصوى، مرحلة "محاربة اسرائيل"، حظي الحزب ببركة الجماهير العربية المبتهجة بـ"إنتصاراته". ولكن خدعة خدمة قضية فلسطين انتهت من غير رجعة، عندما اندلعت الثورة السورية وصارت الطريق نحو فلسطين تمرّ بالقصير، ومن ثم بحلب، ومعهما "الدفاع عن الجيش العربي السوري ضد الهجمة الصهيونية الإمبريالية"... وظهر الوجه الإيراني الصرف للحزب، على الأرض كما في الديبلوماسية والسياسة. بين الجيش السوري، الصديق، والجيش الروسي وميليشياتهما، و"الحرس" الإيراني، إذا حصلَ أي خلاف ميداني، يأتمر الحزب بأوامر الأخير، "الحرس الإيراني"، حتى ولو على نحو فضائحي بحتْ (كما حصل عند خروج أهل حلب، وتوقيف الحزب لشبابهم والتنكيل بهم، خلافاً للقرار الروسي). الآن، ولّى الزمن الذي يضحك فيه الحزب على الأمة العربية الساذجة؛ قتْله للسوريين، لصالح الإيرانيين، ينزع عنه صفة العروبة، بعدما نزع عنه صفة الجيرة والأخوة، لصالح كيان بعيد غير عربي، ذي طموحات قومية فارسية ونفَس إمبراطوري. وصرتَ تسمع عن قياديين في الحزب، كما عن "الأوفياء" لخطّه من بين الجماهير المؤمنة، كلاماً ينمّ عن تضخم هائل للذات، من نوع: "بالنسبة لحزب الله المقاومة رقم أساسي، ولبنان تفصيل صغير"؛ وقد لمَسنا ترجمة حيّة لهذا التضخّم، في الاستهتار بشتى مراحل الفراغ والإمتلاء في السياسة اللبنانية. تضخّم للذات، لا يسمح برؤية الحزب على حقيقته: أي مجرّد فريق عسكري بخدمة قوة إقليمية. فريق متمرّس، لامع، منضبط، "ريادي"... صحيح، يستحق النياشين الإيرانية الكبرى... ولكنه يبقى فريقاً من بين الأفرقاء الآخرين، من ذوي الجنسيات الأخرى، المولجين عملية تدمير المجتمعات العربية بالعصبية وبالسلاح. هذا التضخّم للذات يشي بضياع عميق للهوية، لا تستطيع أن تخفيه الهوية المذهبية المجنّدة من أجل معركة إيران في سوريا وفي غيرها؛ معركة توسيع مجالها الحيوي بسواعد الشيعة من أبناء البلدان التي تنوي اختراقها وتدمير نسيجها. هذا ضرب صامت للهوية، الشيعية منها والإسلامية والعربية واللبنانية والعراقية... ضربٌ يخرج إلى العلن من دون استحياء عندما تردّ عليه العصبيات السنية الداعشية بالمنطق والرؤى والممارسات المذهبية الجنونية نفسها. على كل حال، "أين العرب؟". لقد اختفوا عن المشهد السوري، الأكثر إشتعالا الآن. وهم وحدهم مسؤولون عن غياب أدوارهم. ولكن هذا موضوع آخر.
المهم إن علاقة "حزب الله" بايران، هي أمتن وأعمق وأكثر استدامة من سوابقها؛ كعلاقة الموارنة بفرنسا، ثم بإسرائيل، وعلاقة السنّة بالعمق العربي، الناصري خصوصاً، ثم علاقة الشيوعية بالأممية الشيوعية، "الكومنترن". وإذا أخذنا الخط البياني لتلك الطوائف السياسية، فيمكننا التنبؤ بأن "حزب الله" سوف يرجع إلى لبنان، كما عاد أشباهه. ولكن، لتكون هذه العودة "وطنية" حقاً، يجب أن يعود الحزب مهزوماً من سوريا؛ ومن هذا الزاوية وحدها، يمكن الاستخلاص بأن هزيمة إيران في سوريا هي إنقاذ للبنان. فإذا عاد الحزب منتصراً، علينا تكبّد "إنتصار إلهي تاريخي استراتيجي" آخر كالذي حصل عام 2006؛ يحتفظ ساعتها الحزب بالسلاح من أجل المزيد من إضعاف الهويتين اللبنانية والعربية، من تمزيق نهائي للهوية اللبنانية؛ التي لا تعود تنفع معها لا جوقات "التعايش"، ولا أشجار الميلاد، ولا المعايدات البروتوكولية المشفِقة. ومعه تبقى غالبية القادة اللبنانيين، ساكتين عن هذا السلاح، لعلّهم بذلك يحافظون على قوانين التشرذم الطائفي، حامي حمى وجاهتهم وثرواتهم وأدوارهم الضيئلة. فـ"حزب الله"، في النهاية، مدين للنظام الطائفي بوجوده؛ لولاه، لما كنت سمعتَ أصلاً بهذا الوجود.