فرضت التطوّرات المتسارِعة على الساحة السورية على وقع التفاهم الروسي - التركي الجديد على وقف نار شامل يستثني بعض الفصائل المعارِضة، قراءةً جديدة لها. ومهما تعددت القراءات فإنّ أخطرها قالت إنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكمل انقلابه على الحلف الدولي على وقع أسئلة طُرحت حول الظروف التي دفعت الى هذا التفاهم رغم الخلافات على عناوين كبرى بين الطرفين وحلفائهما. فما الذي يقود الى هذه المعادلة؟من دون أيّ مقدمات توحي بخلاف كبير بين تركيا ودول الحلف الدولي انجرفت أنقرة الى تفاهم شامل مع موسكو لترتيب وقفٍ للنار على كلّ الأراضي السورية يمهّد لحوار سياسي إذا صمد هذا الإتفاق شهراً واحداً، حسب وثيقة «تفاهم موسكو» التي صدرت عقب لقاء وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا قبل ايام في العاصمة الروسية بمعزل عن مواقف الولايات المتحدة الأميركية ودول الحلف الدولي العربية والغربية في آن.
فعلى خلفية الكم من الخلافات الإستراتيجية الكبيرة بين مفهوم العواصم الثلاث موسكو وطهران وأنقرة لقواعد التفاهم الأساسية لأيّ اتفاق حول سوريا، فقد افتقدت الأوساط الديبلوماسية والسياسية نصاً موحَّداً واضحاً للتفاهم الثنائي بين أنقرة وموسكو باستثناء موعد وقف النار الذي دخل حيّز التنفيذ فجر أمس الجمعة على مختلف الجبهات في سوريا والتوافق برعاية تركية وروسية على عدم المَسّ بخطوط التماس المرسومة ساعة التفاهم على وقف النار والتعهّد بعدم خرق أو تعديل أيّ منها وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية.
ولذلك، بقي المجال مفتوحاً أمام تفسيرات مختلفة حول بعض من مضمونه وخصوصاً على مستوى التصنيف الجديد للمنظمات الإرهابية المستثناة من هذا الإتفاق وسط إجماع على إبقاء المناطق التي تسيطر عليها «داعش» و«النصرة» خارج أيّ تفاهم.
وهو ما طرح أكثر من سؤال حول ما إذا كانت المناطق الواقعة ضمن سيطرة الوحدات الكردية في شمال سوريا مستثناة من وقف النار أم لا، وبالتالي هل غيّرت تركيا من موقفها تجاه الكيان الكردي الجديد المرفوض؟ كذلك بالنسبة الى مصير الرئيس السوري بشار الأسد وانسحاب القوى الإيرانية والعراقية واللبنانية الحليفة للنظام كما تطالب تركيا بذلك.
وعليه، فإنّ مراجع ديبلوماسية غربية وعربية دعت الى انتظار ما ستكون عليه التفاهمات الروسية والتركية الجديدة في صيغتها الواضحة، وهو أمر يستلزم بعض الوقت للتثبّت من أيّ تغييرات قد طرأت على المواقف من هذه العناوين الكبرى. ولربما تنتظر موسكو وأنقرة المواقف الإيرانية والأميركية النهائية من هذا التفاهم الثنائي الذي فاجأ في جوانب عدة منه جميع الأطراف بمن فيهم حلفاء الطرفين.
وبناءً على هذه المعطيات، دعت المراجع الديبلوماسية الى مراقبة ردة الفعل الإيرانية كما الأميركية على رغم صدور مواقف من عاصمتَي البلدين ترحّب باتفاق وقف النار من دون الدخول في التفاصيل التي نصّ عليها الإتفاق ولا سيما ما يتصل بمصير الأسد والقوى الغريبة عن سوريا والموجودة في محورَي النزاع الى جانب النظام والمعارضة في آن.
وأمام حجم الأسئلة التي تنتظر الأجوبة المناسبة عليها بالدقة المطلوبة بدأت تتبلور في أفق الأزمة السورية صورة جديدة عن التحالفات وضعت روسيا في جانب منها في مواجهة غير معلنة مع حلفائها الإيرانيين وأنقرة في موقع متقدّم يبعدها تدريجاً من الحلف الدولي بوجهيه العربي ـ الخليجي والأميركي ـ الغربي.
وعند الغوص في الأسباب الموجبة والمظاهر التي دلّت على الحلف الثنائي الجديد لا بد من التوقف أمام سيل من الملاحظات التي تُظهر التبدّل في الموقف الروسي من حلفائه الإيرانيين والسوريين وحجم الإنقلاب التركي على الحلف الدولي ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
ـ الإصرار الروسي على وقف نار شامل قبل استعادة المواقع التي خسرها النظام في تدمر وبعض أرياف حلب وتأجيل البتّ بها الى مرحلة أُخرى بهدف استيعاب النتائج السلبية التي طالت صورة الدور الروسي في حلب والحديث عن انتهاكات لحقوق الإنسان في المدينة.
ـ الدعم الذي تقدّمه موسكو للقوات التركية في حربها لإسقاط مدينة «الباب» السورية وتقديم الدعم الكبير لها رغم السباق المحموم بين أنقرة ودمشق في الطريق الى مدينة الباب. وهو ما شكل نقزة كبيرة لدى النظام السوري وطهران اللذين كانا يراهنان على التقدّم في اتجاه هذه المدينة بعد سقوط حلب.
ـ تراجع تركيا عن دعم المجموعات المسلّحة في حلب قبل خمسة أشهر وقطع طرق الإمداد عبر الأراضي التركية وصولاً الى مرحلة سقوط المنطقة الشرقية من حلب والتعاون مع موسكو لتسهيل عملية إخراج المسلّحين منها.
ـ الإتهامات المعلنة التي وجّهها الرئيس التركي قبل أيام الى واشنطن باستمرار دعمها للفصائل السورية المعارضة وحديثه عن أدلّة تؤكد أنّ قوات التحالف الذي تقوده واشنطن تقدّم الدعم لجماعات «إرهابيّة» في سوريا ومنها «داعش» وجماعة كرديّة مسلحة. مضيفاً أنّ «التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن لا يفي بالوعود فيما يتعلّق بالقتال ضد «داعش».
وأمام هذه الصورة الجديدة للمواقف والتحالفات الجديدة في سوريا ثمّة مَن يعترف بقوة أنها لن تدوم وأنّ العودة الى مفاوضات السلام في مدينة «الأستانة» عاصمة كازاخستان بدلاً من «جنيف 4» محفوفة بالمخاطر لتزامن هذا الإنتقال في حال حصوله مع تسلّم الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب مهماته الدستورية في 20 كانون الثاني المقبل، وهو ما يزيد من نسبة المخاطر على آلية التفاهم التركي ـ الروسي ما لم يحظَ بالرضى الأميركي الكامل وعندها ستنقلب الصورة وسينظر الى كلّ الحراك الديبلوماسي الروسي على أنه لملء الوقت الضائع والسعي الى فرض أمر واقع جديد قبل وصول الإدارة الأميركية الجديدة الى السلطة بحيث سيبدأ البحث في صِيَغ أخرى لا تخلو من المفاجآت المنتظَرة مع دخول ترامب الى البيت الأبيض..