ربما يجب القول، خلافاً للتحليلات الرائجة، أنه لم يعد للرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان مشروع "عثماني"، صار مشروعه الوحيد تركيا، أي الاحتفاظ بالسلطة على جمهورية تركيا. ولربما أُرغِم لاحقا على بدء مرحلة الدفاع عن استمرار وحدة تركيا التي ساهمت مغامراته الخارجيّة في تعريضها لخطر الحرب الأهلية البادئة بصورة أو بأخرى.
كتب روبرت فيسك أن تركيا تفتّتتْ عام 1919 - 1920 ولا تزال تتفتّتْ عام 2016.
صعبٌ أن يكون المراقب من هذا الرأي، لكن من الصعب أيضاً أن يتجاهله كلياً. المنطقة منهارة حالياً والمشاريع السياسية العائدة بقوة عام 2017 مهتمة بوقف الانهيار أكثر من قدرتها على إعادة التماسك. ربما قوة تركيا الحالية، قوة تركيا وليس رجب طيِّب أردوغان، أن الأتراك أقاموا في أوائل العشرينات من القرن العشرين دولتَهم الجمهورية المعاصرة بالقتال والدم، أما الوطنيات الأخرى المحيطة بهم في العراق وسوريا ولبنان فقد رُسِمتْ من قوى خارجية دون أن نقلِّل من أهمية النضالات التوحيدية داخل البلدان الثلاثة العربية. لكنها نضالات سياسية بينما الأتراك قاتلوا على كل الأراضي التي صارت دولتهم في معاهدة لوزان بعدما أنهوا ما اعتبروه "عارَ" معاهدة "سيفر".
ها هو رجب طيِّب أردوغان، وقد أصبح ديكتاتور تركيا، يُنجِز إحكام قبضته على السلطة، منهياً حلم حوالي أربعة عقود من جعل تركيا النموذج الرائد والوحيد في العالم المسلم لدولة تحديثية ديموقراطية، وأكثر من تسعة عقود على تأسيس وتثبيت علمانية في مجتمع مسلم.
السيد رجب طيِّب أردوغان أنهى كل ذلك الآن وأصبحت تركيا، لا سيما عام 2016 دولة محكومة بميليشيات ترتدي رداء الشرطة وبجهاز مخابرات قادرة على إرهاب ليس فقط المعارضين، ومنهم نخبة واسعة جداً من أفضل كوادر ومبدعي تركيا وإنما أيضاً ترهب الجيش التركي نفسه، الجيش الذي بنى لعقود سمعة كبيرة من الكفاءة والمهابة.
العالم المسلم في حداد مستقبليِّ السمةِ بعد إسدال الستار على النموذج التركي ودخول تركيا في ظلام القمع البوليسي الذي يديره السياسي الذي تحول إلى أكبر مخادع في تاريخ هذه الجمهورية، انكشاري معاصر تسلل ببراعة عبر شعارات المظلومية الديموقراطية لينهي تجربة رائدة في التحديث السياسي والاقتصادي. إنه رجب طيِّب أردوغان.
الحِداد التركي عام 2016 ليس ماضوياً. إنه ليس عاشوراء مستعادة في طقوس دينية مكررة، وليس استذكاراً ثقافياً فجائعياً لسقوط الأندلس وليس ندباً على ضياع فلسطين. إنه خسارة بصيص الضوء الوحيد الذي كان متبقياً لمشروع يتوقف عليه كل مصير علاقة الإسلام بالحداثة. وبهذا المعنى إنه نكبة من نكبات العالم المسلم التاريخية الكبرى لا تقل أهمية، إذا لم تزد، عن هزيمة العام 1967 العربية في الحرب مع إسرائيل.
هل تعلم عزيزي القارئ، أن اسطنبول وأنقرة والمدن التركية الكبرى هي اليوم مدنٌ الهمسُ فيها "أعلى" من أي صوت، الصمت فيها هو حكمة اللحظة حتى لا يتعرض القائل لاعتداء ميليشياوي أو للسجن أو حتى للقتل. ألوف معتقلي الرأي من صحافيين ومثقفين وقضاة ورجال أعمال وأساتذة جامعيين وضباط ونواب وناشطين و و و...
هل تعلم عزيزي القارئ أن مدنا وقرى بكاملها دُمّرت في تركيا في العامين الأخيرين في منطقة الجنوب الشرقي ذات الكثافة الكردية ولا يقل دمارها عن حلب وحمص بعدما أرغم أردوغان الجيش على إعادة التورط في حرب مع الأكراد؟
يسعى ديكتاتور تركيا إلى تسويات في سوريا مع جارتيه روسيا وإيران تحمل طابعاً انقلابياً على كل ما فعله أو حاول أن يفعله في السنوات الخمس المنصرمة. "عقلانية" من ذلك النوع الذي نعهده عند الديكتاتوريين: التنازل عن أي شيء مقابل حسابات الاحتفاظ بالسلطة.
ربما كتب مؤرِّخو المستقبل أن العام 2016 شهد نهاية أمل وحيد كان يلوح في العالم المسلم الشرق أوسطي والإفريقي الغارق في التخلف والطغيان والحروب هو "النموذج التركي".
سيكون عام 2016 في تركيا ما كانته هزيمة 1967 للعرب وكلاهما بهذا المعنى كانا علامتين على نهاية مشروعَيْ إقامة علاقة متقدمة مع الحداثة.
ينبغي لهذه المقارنة أن لا تفاجِئ أحداً. صحيح أن الصخب العسكري المذهل الذي رافق هزيمة مصر وسوريا والأردن عام 1967 يجعل المقارنة صعبة، لكن "الصخَب" الذي رافق ويرافق انتقال تركيا في فترة وجيزة وسريعة بين 2013 و2016، وبلوغه الذروة المعلنة والسافرة في صيف عام 2016، صخبَ انتقال دولة مسلمة كانت وحيدةً في طريق التحديث الديموقراطي الاقتصادي إلى ديكتاتورية شاملة هو صخب هزيمة ثقافية عميقة للعالم المسلم كله وليس فقط تركيا. وإذا كان من غير الممكن لمراقب تركيا عام 2016 أن يستعير تفاؤلَ شاعر تركيا ناظم حكمت قبل ستين عاماً: "أجمل القصائد تلك التي لم أكتبها لكِ بعد"... فمن الواقعية الحصيفة أن يلجأ إلى بيت شاعر عربي هو امرؤ القيس القائل قبل ألف وخمسماية عام:
وإنْ تــكُ قــد ســاءتــكِ مــني خَليقَـةٌ
فـسُـلّـي ثـيـابـي مـن ثـيـابِـكِ تَـنْـسُــلِ