كثرت الأسباب، والنتيجة واحدة: 2016 هو العام الأكثر أماناً منذ أن انفجرت السيارة المفخّخة التي ركنت داخل مرأب أحد المراكز التجارية في منطقة بئر العبد بتاريخ 9 تمّوز 2013. ومنذ ذلك اليوم توالت التفجيرات في الدّاخل اللبناني، وبينها 9 تفجيرات استهدفت الضاحية الجنوبيّة بين تموّز 2013 و23 حزيران 2014 وصولا إلى تفجير عين السكّة في 12 تشرين الثاني 2015، بالإضافة إلى تفجيرات أخرى استهدفت مناطق أخرى كعرسال وطرابلس والهرمل وغيرها من المناطق، إلى جانب المعارك التي خاضها الجيش في عرسال والشمال.
وبرغم ذلك، فإن الأجهزة الأمنيّة استطاعت خلال الأعوام الأربعة الماضية من ضرب التنظيمات الإرهابيّة وتفكيك خلاياها وبنتيها التحتيّة، حتّى باتت «كتائب عبد الله عزّام» اليوم شيئاً من الماضي مع إلقاء القبض على معظم قادتها وتواري البعض الآخر عن الأنظار.
خلال أربع سنوات، هوت الكثير من الشبكات الإرهابيّة والأسماء الكبيرة التي كانت أشبه ما تكون بـ «أشباح دمويّة» وصار اليوم اسمها مسبوقاً بكلمة بسيطة: «موقوف».
وفيما كانت الأجهزة العسكرية والأمنية اللبنانية تنتقل من ضفة الدفاع والوقاية إلى ضفة الأمن الاستباقي والهجومي مستفيدة من خبراتها واعترافات الموقوفين وقدراتها التقنية (الرصد تحديدا)، طوّرت التنظيمات الإرهابيّة، في المقابل، استراتيجيّات عملها الأمني، إذ صارت أكثر احترازيّة وباتت الخلايا العنقوديّة هي الأكثر انتهاجاً.
ويمكن القول إنه لولا تفجير كسارة (زحلة) في آب الماضي وعدد من التفجيرات في بعض المناطق كـ «قطوع» منطقة القاع حينما فجّر أربعة انتحاريين أنفسهم، لكانت صفحة لبنان «نظيفة» من أي هدف إرهابيّ كبير في العام 2016.
هل نجح الأمن الاستباقي؟
يصح القول إن المديريّة العامّة للأمن العام كانت سباقة في اعتماد قاعدة الأمن الاستباقي: عمليّة فندق «دو روي» ما زالت ماثلة في الأذهان عندما اقتحمت دوريّة من الأمن العام الغرفة الرقم 313 في الفندق وألقت القبض على السعودي (الانتحاري) عبد الرحمن الشنيفي بعد أن قام زميله السعودي بتفجير حزامه النّاسف بعناصر الدوريّة.
ومنذ ذلك الحين، تبحث المديريّة التي دخلت إلى عالم الإرهاب بإمكانيّات محدودة عمّا يمكن أن يقودها إلى «الرؤوس الكبيرة»..
في العام 2016، كانت الحصيلة: 81 موقوفاً يتبعون لخلايا تعمل في إطار التحضير لعمليّات انتحاريّة في عدد من المناطق اللبنانية وتفخيخ سيّارات وتجنيد أشخاص وتقديم المالي واللوجستي المباشر للتنظيمات الإرهابيّة.
مراجعة توقيفات الأمن العام في 2016 تشي بأنّ التنظيمات الارهابية لا تتكئ على «أرضيّة سوريّة». أعداد الموقوفين لدى الأمن العام في 2016: 31 لبنانياً و47 سورياً و3 فلسطينيين.
وفق الأرقام، تتضاءل في 2016 أعداد الموقوفين بتهمة الانتماء إلى «النصرة» مقابل ارتفاع أرقام المنتمين إلى «داعش». فقد تمكّن الأمن العام هذه السنة من توقيف 17 شخصاً يقومون بأعمال لمصلحة «النصرة» ويتوزّعون على 5 خلايا، مقابل 53 موقوفاً يعملون لمصلحة «داعش» ضمن 15 خليّة تمّ تفكيكها على الأقل، بالإضافة إلى 4 أشخاص ينشطون في مجال تحويل ونقل أموال من لبنان إلى سوريا وبالعكس، لمصلحة أكثر من تنظيم إرهابيّ.
عين «النصرة» على شبعا
ومع ذلك، لا يمكن الاستهانة بقدرات «النصرة» في لبنان، خصوصاً أن الخلايا الخمس التي تتبع لها وتم تفكيكها كانت تنشط في مجال التفخيخ وتجارة المتفجّرات. وإلى جانب الدعم اللوجستي الذي كانت تقدّمه هذه الخلايا، فإنّ «النصرة» لم تشح عينها عن التنفيذ، بل صوّبت نحو «منطقة جديدة» نسبياً: شبعا.
هذا ما ظهر جلياً في إفادة السوريّ الذي أوقفه الأمن العام بتاريخ 7 أيّار الماضي ليعترف أنّه مبايع لـ «النصرة» وكُلّف بمراقبة ورصد تحرّكات دوريّات الجيش اللبنانيّ في محيط بلدة شبعا وتأمين الدعم اللوجستي للتنظيمات الإرهابيّة في بلدة بيت جن السوريّة.
فيما تعدّ أهم الخلايا هي تلك التي ألقى الأمن العام القبض على 5 من أفرادها السوريين بين منطقتي المنية وعرسال بتاريخ 5 شباط الماضي.
واعترف هؤلاء أنّهم كلّفوا بمهام تجهيز وتفخيخ سيارتين لاستهداف الدّاخل اللبناني، بالإضافة إلى مشاركتهم في معارك عرسال ضدّ الجيش اللبنانيّ وخطف عناصره.
ولا تقلّ «خليّة بحمدون» أهميّةً عن سابقتها، إذ أن المضبوطات كانت مفاجئة للدوريّة التي تمكّنت في 7 تشرين الأوّل الفائت من توقيف 7 من أعضائها بينهم لبناني واحد. فكانت هذه الخليّة تؤمّن الدّعم المالي واللوجستي وتجارة الأسلحة والذخائر الحربية وتأمين الصواعق والمتفجّرات لـ «النصرة». كما تمّ العثور في المصنع نفسه على أكثر من «فلاي كام» نقلت غالبيّتها إلى سوريا.
«داعش» بين التخطيط والتنفيذ
في المقابل، استطاع الأمن العام توجيه أكثر من ضربة استباقيّة إلى «داعش»، وفكّك 15 خليّة كان بعضها يخطّط لتنفيذ عمليّات إرهابيّة في الدّاخل اللبنانيّ، برغم اعتماد التنظيم هيكليّة مركّبة وعنقوديّة وإسناد المهام الرئيسيّة إلى أشخاص غير مشكوك بأمرهم، إلى حدّ وصول الأمر أنّ الرأس المدبّر لإحدى هذه الخلايا كان مقعداً ومريضا، فيما الماكينة الطبيّة التي تساعده على التنفّس، لا تفارقه في أكثر الأحيان!
وحده تفجير كسارة ـ زحلة، بطريقة لاسلكية (عن بعد) حمل بصمات «داعش». ومع ذلك، فشل في تحقيق الهدف، أي استهداف حافلات حركة «أمل» المتجهة إلى الجنوب للمشاركة في ذكرى اختطاف الإمام السيد موسى الصدر.
كما كشفت هذه العبوة التي انفجرت بتاريخ 31 آب الفائت في كسارة ـ زحلة عن احترافية عالية لدى الأمن العام الذي قبض في اليوم التالي على عدد من الأشخاص، قبل أن تتهاوى الشبكة بكاملها بتوقيف معظم المخططين والمنفذين (14 موقوفاً بينهم 11 لبنانياً و3 سوريين) لهذا التفجير الذي ذهبت ضحيّته امرأة سوريّة وبعدها بحوالي عشرة ايام سيدة لبنانية كانت قد اصيبت في الانفجار وتوفيت متاثرة بجراحها.
حينها، كان المخطّط أبعد من عبوة في زحلة، ولكن الإجراءات الأمنيّة المفروضة حالت دون تمكّن المنفذين من نقل المتفجّرات إلى حيث تمنّى الإرهابيون أن تكون: النبطيّة وسحمر ويحمر ومشغرة وجبانة تعلبايا. ولكن العكس حصل، إذ كشفت اعترافات الموقوفين أنّ هذا التفجير ليس الأوّل من نوعه، بل أزاحت الستار عن الأشخاص الذين عملوا على استهداف حافلات حزب الله» على طريق البقاع ـ دمشق خلال الأعوام الأربعة الماضية.
وإذا كانت «خلية كسارة» استطاعت الانتقال من التخطيط إلى التنفيذ بـ «أقلّ الخسائر»، فإنّ إحدى أهم الخلايا لم تستطع ذلك، بل تمّ توقيف أفرادها الـ 8 بتاريخ 8 تشرين الأوّل الماضي.
كانت لائحة الأهداف التي وضعها هؤلاء لا تُعد ولا تحصى. والأهمّ أنهم اختاروا قاعدتهم في منطقة اعتقدوا أنّها الأكثر أماناً لتحرّكاتهم، خصوصاً بعدما اصطفى «داعش» رجلاً قال كلّ من يعرفه أنّ الطيبة تبدو على ملامحه وأفعاله!
هكذا، انتقل الرّجل من مسقط رأسه في سوريا إلى صور وبدأ بتجنيد بعض من هم حوله لمبايعة «داعش» قبل أن يبدأ بتجهيز نفسه لمرحلة التنفيذ بعد أن استأجر شقّة في المدينة تمهيداً لاستقبال وإيواء مجموعة من الانتحاريين وتصنيع أحزمة ناسفة لتجهيزهم بهدف تنفيذ عمليّات انتحاريّة تستهدف مطاعم ومقاهٍ سياحيّة في الجنوب وقوات «اليونيفيل».
كان هذا المخطّط الذي تمكّن الأمن العام من الكشف عنه قبل تنفيذه هو المشروع الأكثر دمويّة على الإطلاق لهذا العام.
ويبدو واضحاً أنّ التنظيم لا يملّ من التخطيط وإن فشلت التجارب وكانت له القوى الأمنيّة في المرصاد. وهذا ما يتكشّف مثلاً من توقيف إحدى أهمّ الشبكات بتاريخ 12 كانون الأوّل الماضي، حينما قبض على 4 سوريين ولبناني في وادي خالد، مهمتهم تجهيز سيّارات مفخّخة وتصنيع عبوات وأحزمة ناسفة بهدف تنفيذ عمليّة انتحاريّة في منطقة الشمال.
كما تمكّن الأمن العام من توقيف شخص بتاريخ 7 حزيران الماضي واعترف أنّه كُلف من قيادته بتنفيذ عمل إرهابي ضد مدنيين.
بالطبع، ليس الدّاخل اللبناني هو فقط ما يشغل بال «داعش»، بل إن مخيّم عين الحلوة الذي يعيش على صفيح ساخن هو أيضاً من أهدافه. كثيرةٌ هي المخطّطات التي يرمي إليها التنظيم، وليس القبض على فلسطينيين يعملان ضمن خليّة تمّ تكليفها باغتيال أحد عسكريي «فتح» بتاريخ 21 حزيران الماضي، إلّا واحدة من هذه الأهداف لإشعال المخيّم.
وبالإضافة إلى الخلايا التي تعمل في إطار التخطيط والتنفيذ لأعمال إرهابيّة، فإنّ توقيفات الـ 2016 تشير إلى الأهميّة التي يعلّقها «داعش» على التجنيد. ولذلك، فقد تمّ تفكيك أكثر من شبكة تعمل في هذا المجال وكان أبرزها تلك المؤلّفة من 4 لبنانيين وسوري وتنشط في منطقتي المنكوبين في طرابلس ووادي خالد. كان هؤلاء يرتبطون مباشرة بقيادة التنظيم في الرقة وكُلّفوا بتجنيد أشخاص وتحديداً القاصرين منهم لإرسالهم للقتال بصفوف التنظيم في سوريا.
ومن أبرز الشبكات التي فكّكها الأمن العام خلال هذا العام كانت مؤلّفة من 5 أشخاص غالبيّتهم من اللبنانيين، ومكلّفة بنشر فكر ونهج التنظيم وإصداراته عبر الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
كما تمكّن الأمن العام من تسجيل أحد إنجازاته في نهاية العام عندما قبض على السوري الذي نقل أحد انتحاريي التفجير المزدوج في عين السكّة.
إسرائيل بالمرصاد
وبرغم متابعته للتنظيمات الإرهابيّة، إلّا أن الأمن العام لم يحد نظره عن العدو الأوّل: إسرائيل. وبعد أن تمكّن الأمن العام خلال الـ 2015 من توقيف خليّة يرأسها سورياً كُلّف من «الموساد» بأن يقوم باغتيال أكثر من شخصيّة سياسيّة ودينيّة وأمنيّة في الجنوب، أوقف الأمن العام لبنانياً بتاريخ 1 آب الماضي بالتهمة نفسها.
واعترف الموقوف أنّ المخابرات الإسرائيليّة كلّفته بمهام أمنيّة وتجهيز مجموعات مسلّحة لتنفيذ أعمال إرهابيّة في الدّاخل اللبنانيّ والتخطيط لاغتيال النائب وليد جنبلاط.
ماذا عن 2017؟
إذاً، كان 2016 الأكثر أمانا من سابقاته، بفضل الأمن الاستباقي في لبنان وتطورات الميدان السوري ثانيا، وهذا ما أشار إليه الأمين العام لـ «حزب الله» السيّد حسن نصرالله في خطابه أمام الطلاب الجامعيين قبل اسبوع، عندما أبدى خشيته من أن يكون انتصار النظام السوري وحلفائه في معركة حلب سيخلّف انتقاماً لبعض التنظيمات على الأرض اللبنانيّة.. ممّا يشي بأن يكون 2017 أمنياً على عكس أمان 2016!