لا يشبه المشهد اللبناني عشية السنة الجديدة كل ما عداه منذ عقد من الزمن حتى الآن.
ليست المسألة مسألة ترف سياسي، بل مسألة وقائع أو الأصح موازين قوى تفرض نفسها لبنانيا وإقليميا.
منذ السنة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، وفي عز تورط القطريين والأتراك بدعم المعارضة المسلحة، كان السؤال الأساس: ما هو الثمن الذي ينبغي دفعه للدوحة وأنقرة حتى تجلسا إلى طاولة التسوية الإقليمية الكبرى؟
لم يقدم أحد جوابا مقنعا. ذهب القطريون يوم قال لهم السعوديون والأميركيون أن انتهى دور «الوكيل» بلا ثمن وبلا أي تنازلات. تقدم دور السعودية في الميدان السوري وبقي السؤال التركي بلا جواب.
اليوم، وعلى عتبة السنة الجديدة، ثمة مشهد جديد في سوريا وربما في المنطقة.
هواجس 2012 التي فجّرتها لحظة تفجير خلية الأزمة السورية في عاصمة الأمويين، لم تعد موجودة في حسابات موسكو وطهران ودمشق نفسها.. وحليف هؤلاء «حزب الله».
لم يعد هناك من خطر على سقوط النظام السوري، أقله بحسابات حلفائه، ولم يعد من الممكن أن تمر تسوية على حسابه وحده. التسوية الوحيدة ممرها الإلزامي أن يقدم الجميع تنازلات، بمن فيهم النظام، لن تكون بعيدة عن حسابات الميدان.
هذه هي صورة ما بعد حلب. السياسات والإستراتيجيات تتحول أو توشك على التحول. هذه هي قراءة ما بعد الاتفاق القاضي بوقف إطلاق النار على كامل الأراضي السورية باستثناء مواقع «التنظيمات الإرهابية»، اعتبارا من ليل 30 ـ 31 كانون الأول 2016.
المؤسف في هذا الاتفاق الروسي ـ التركي ـ الإيراني أن لا سوريا موجودة فيه ولا أي دولة عربية، ولو بصفة مراقب!
هل يمكن أن يصمد الاتفاق.. وينجح؟
لا يملك أحد جوابا حاسما والتجارب السابقة تقول إن زمن التسوية لم يحن لكن العبرة في النيات.. ومعظمها إيجابي وتبقى العبرة في التنفيذ والأفعال!
ما هو الثمن الذي يمكن أن تقبضه تركيا وما هو الثمن الذي يمكن أن تدفعه في الوقت نفسه؟
لا أحد يملك جوابا نهائيا حول هذه النقطة بالذات. يجب ترقب ما بعد دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. إذا صدرت إشارة أميركية ما تدل على وجود اتجاه لتسليم فتح الله غولن رجل الدين التركي المعارض لرجب طيب أردوغان، والمتهم بالمحاولة الانقلابية وباغتيال السفير الروسي في تركيا (من وجهة نظر الحكومة التركية)، يمكن تلمس مناخات تدل على استشعار أردوغان حجم المأزق الداخلي المتعاظم، وبالتالي حاجته إلى كل ما يدعم سلطته وإضعاف معارضيه.. ولو على حساب كل المعارضات السورية!
هل يكفي عزل تركيا عن المشهد السوري، أم ثمة حاجة لعزل السعودية ودول الخليج؟
ثمة انطباع سائد في موسكو أن تحييد تركيا هو الأساس، أما دول الخليج، فيجب انتظار ما بعد العشرين من كانون الثاني 2017. لن يمتلك الخليجيون ترف إجابة كهذه. إذا كان مسار الإدارة الأميركية الجديدة هو الهدنة مع موسكو وليس التصادم معها، وهذا هو المرجح، «فعلى دول الخليج أن تدفع فاتورة الحرب الدولية على الإرهاب.. وأي تردد، يعني التلويح بقانون جاستا»، على حد تعبير أحد الديبلوماسيين الشرقيين.
ثمة تشجيع أميركي نقله موفدون لدونالد ترامب إلى القيادة المصرية، بأن تستمر بالحفاظ على هوامشها الإقليمية. ليس المطلوب من مصر الانقياد إلى السعودية ولا الخروج عن الخطوط العريضة للسياسة الأميركية في المنطقة التي تأخذ في الاعتبار أولا وأخيرا مصلحة إسرائيل. هل يكون مفاجئا مثلا أن نرى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يعطي الأوامر في عام 2017 للقوات المصرية بالانخراط في محاربة الإرهاب على أرض ليبيا؟
لا شيء مستبعدا من هذا القبيل.
المشهد في المنطقة يتغير.. والعبرة في ما بعد تسلم دونالد ترامب سدة الرئاسة الأولى. ثمة صندوق أسود. كل يوم قد يتحف المنتظرين بمفاجأة من العيار الذي ينتظره أو يصدمه!
هل يمكن لرجل عاقل في المنطقة ولبنان أن لا يقرأ هذه الوقائع؟
هذا هو معنى قول رئيس حكومة لبنان سعد الحريري إنه مستعد لتدوير الزوايا والتضحية من أجل البلد. لم يعد مطلوبا من زعيم «14 آذار» أن يقرأ أدبيات لا تمت بصلة إلى الواقع. صار واقعيا بحكم الضرورة وما كان في دائرة المستحيل في عام 2016 صار ممكنا في عام 2017.
هل يمكن مثلا أن يتطور الحوار المفتوح بين «حزب الله» و «تيار المستقبل»، برعاية عين التينة، في عام 2017، إلى حد التأسيس لإعادة اجتماع السيد حسن نصرالله وسعد الحريري للمرة الأولى منذ آخر لقاء بينهما قبل نحو سبع سنوات؟
لن يكون مستغربا أن يكون الجواب إيجابياً، أقله، في ضوء الضوء الأصفر السعودي للحريري بأن يتحرر من اعتبارات المملكة وأن يتصرف وفق مصلحته وأن لا ينتظر إذنا منهم لا في هذه ولا في غيرها من العناوين المحلية.
هذه اللاممانعة السعودية، من شأنها أن تفتح أبوابا سياسية جديدة قد تؤدي إلى تعديل بعض قواعد اللعبة المحلية. يكفي لكثر من أهل السياسة أن يستمعوا إلى ما يردده من يمثّل المملكة في لبنان اليوم وبالفم الملآن: «انتهى زمن الحصرية السياسية.. لم يعد أحد في لبنان يحتاج إلى سعد الحريري ممرا إلزاميا للتواصل معنا. خطوطنا مفتوحة مع جميع اللبنانيين مباشرة باستثناء من قرر أن يستعدينا (في إشارة واضحة إلى «حزب الله»)».
لا «تتحرر» السعودية وحدها. «سعدها» في لبنان أيضا يتحرر. ماذا بعد دخول الحريري إلى السرايا، بالأمس، قابضا على ثقة 87 نائبا فقط؟
عهد جديد. حكومة جديدة. الباقي على جدول الأعمال هو قانون انتخابي. الكل يغنّي على موّاله. «الثنائي الماروني» طموحه التوصل عبر «الستين» أو «المختلط» أو «النسبي» إلى قانون يعطيه «الثلث المعطل» في مجلس النواب، وهو يساوي 44 نائبا من أصل 128. لا رئيس جمهورية يمر إلا عبر ممر إلزامي مسيحي ولا شيء يحتاج إلى الثلثين إلا عبر «الثنائي».
من يلتقط الإشارة؟