حرب سوريا التي تحوّلت من ثورة تحرّرية الى نزاع اقليمي دولي له ابعاده الاستراتيجية، دفعت مدينة حلب مؤخرا ثمنه مع اهلها الذين قُتلوا وشُرّدوا. سماحة العلامة المفكر الاسلامي السيد محمد حسن الأمين كان له رأي يشرح فيه بدقة الخلفية السياسية والبعدين الثقافي والديني لما جرى.
يرى السيد الأمين بالنسبة لما يحدث من نزاعات في المنطقة فانه: “من وجهة نظرنا أن ظاهرة الصراع والاقتتال التي تشهدها ساحات متعددة في الوطن العربي والإسلامي لا يمكن أن تكون في جذورها منطلقة من التغاير المذهبي والطائفي، ودائماً في الصراعات يجب أن نبحث عن المصالح والمنافع، وهذه الرغبة دائمة الحضور في الهيمنة والسيطرة بين فرقاء ينبغي أن تكون متصالحة ومتفاعلة، ولم أجد أن اختلاف المذاهب أوالأديان كان يشكّل عنصراً حصرياً لمثل هذه الصراعات. وإذا تدرجنا إلى المذاهب الإسلامية نفسها، لا ننكر أنها شهدت في الماضي شيئاً في العنف، ولكنه كان محدوداً لأنه لم يكن عنفاً في سبيل الهيمنة والسيطرة، وإنما كان فيه شيء من الانتصار للعقائد ولوجهات النظر في تفسير الدين، وأذكر على سبيل المثال إحدى مراحل هذا الصراع في العصر العباسي التي قامت على مسألة القرآن، هل هو مخلوق أمر قديم”؟
ويتابع السيد الأمين فكرته شارحا: “في نظري فإن هذه الصراعات لم تكن معقدة ولم تدخل فيها عوامل سياسية اقتصادية، بقدر ما كانت اختلافاً بين الفقهاء، بينما في عالمنا المعاصر، لا يمكن أن يكون هناك صراع على أساس هذه المقولات والخلافات المذهبية التي اعتاد الفرقاء عليها بقدر ما هو، أي هذا الصراع تحكمه أو تؤسس له عوامل سياسية واقتصادية، وصراع نفوذ دولي وإقليمي، تبرز فيه قصدية تحويله أو تغطيته بطابع مذهبي، والطبع المستعار هذه المرة هو طابع الاختلاف السني الشيعي وخصوصاً في العالم العربي الذي نعلم أن دوله تشكّلت بنفوذ استعماري وبالأخص عبر معاهدة سايكس – بيكو التي كانت وراء تشكيل الدول العربية”.
لذلك “انطلاقا من هذه المصالح الاستعمارية التي ذكرناها، وعلى سبيل المثال أود أن أشير إلى أن المرحلة الاستعمارية التي شاءت قبل خروج الاستعمار المباشر من هذه المنطقة أن “تفخخ” العلاقات بين المناطق والدول والطوائف.وطبيعي أن القصد من ذلك كان امتلاك القدرة الاستعمارية على التحكم في المنطقة العربية من الخارج. ويمكن أن نشير أن السلطات التي في الدول العربية بعد تقسيمها كانت جميعها تقريباً خاضعة لسلطة الأقليات إما المذهبية أو القومية في هذه الدول”.
ويشير السيد الأمين الى تعمّد تسليم الحكم الى الأقليات من قبل الاستعمار” مثال سوريا والعراق، ففي العراق سلّم الاستعمار البريطاني السلطة لسنّة العراق، وهي الأقلية بالمقارنة مع الشيعة، وقد عمل الاستعمار نفسه على محاولة تقوية الأقلية العلوية في سوريا في مواجهة الأكثرية السنية فيها، وفي لبنان كما نعلم جميعاً، فقد عملت فرنسا على تقوية النفوذ المسيحي والماروني بشكل خاص في مواجهة مسلمي لينان وبعض طوائفه الأخرى”.
وما دمت تسألني عن حلب يقول السيد الأمين” فهي تشكل الصورة الأكثر سطوعاً ووضوحاً لما أشرنا إليه، فدخول روسيا المباشر إلى جانب السلطة في سوريا واستحضار أساطيلها وطائراتها للدفاع عن النظام لم يعد أمراً مشكوكاً فيه، بل هو أمر مباشر وعلني لا تخفيه السياسة الروسية ولا مقاصدها منه أيضاً وهي أنها تريد أن تدافع عن مواقع النفوذ لها في ساحل المتوسط من خلال نظام تحرّكه متى شاءت ويتكفل بضمان مصالحها كما تراها هي.”
إقرا أيضا:«العلمانية المؤمنة» جسر عبور المسلمين نحو الحداثة
وحول المظهر الطائفي للحرب السورية يجيب السيد الأمين “انني لا أنفي ذلك، لأن استمرار الحرب في سوريا، ولو أنها حرب غير طائفية في جوهرها، إلا أنها باتت بصورة من الصور حربا مذهبية وطائفية، وهذا بسبب غياب الوعي السياسي والإسلامي لدى الشرائح المتصارعة، ومن أسبابه غياب مشروع حضاري جديد للمنطقة يشارك في إقامته وإطلاقه السنّة والشيعة معاً، بل صارت المسألة تجري باتجاه تقرير الغرائز المذهبية والعقائدية، وغياب ما أسميته بمشروع التجدد الحضاري الذي بدأت تظهر بعض بشائره من خلال الانتشار ولو الجزئي لأفكار التنوير وقيام مؤتمرات مشتركة بين الطوائف والأديان والمذاهب العربية ترفع شعار العمل على قيام النهضة الثالثة، إذا اعتبرنا أن النهضة الأولى قامت في العصر العباسي، والثانية في نهاية عصر العثمانيين بعد الحرب الأولى، وشعور النخب العربية والإسلامية أن ثمة ضرورة لقيام النهضة الثالثة”.
إقرأ أيضاً: العلامة محمد حسن الأمين تعليقاً على منع فيروز في الجامعة: الإسلام ليس عدواً للإبداع والجمال
ويؤكد السيد الأمين انه “من الطبيعي أن تتضمن النهضة الثالثة تشكيل البنى السلطوية في العالم العربي وهذا ما يخيف القوى الحاكمة، وخاصة عندما بدأت طلائع هذه النهضة بطرح شعار الربيع العربي، والذي كان عنوانه، النقلة النوعية من الحياة والعيش في ظل الأنظمة المستبدة وصولاً إلى الأنظمة التي تختارها الأمة، وقد تمكنت هذه النهضة الثالثة من إسقاط الأنظمة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، وبدا أنها ماضية في إسقاط هذه النظم، وهذا ما يفسّر ما أسميه بالتوحش الدولي والإقليمي في الدفاع عن النظام في سوريا. وقد أدى هذا العنف السلطوي والدولي ضد المعارضة السورية إلى نشوء ظاهرة عنف مقابلة، ولكنها مع الأسف متحصّنة بغرائز طائفية وميّالة لتوسّل العنف والقتل والتدمير، كل ذلك كان يحتاج إلى غطاء ديني، فبرزت هذه الحركات الدينية كداعش والقاعدة، ويمكن بكل اطمئنان القول أن هذه الفصائل الارهابية تم التمهيد لها ودعيمها من قبل النظام نفسه، ومن قبل الدول الكبرى ذات المصلحة في استمرار الصراع والخائفة من ولادة صحوة قوية ومستدامة تنحاز إلى حقوق ومصالح الشعوب العربية وفي مقدمتها شعب سوريا الذي ما زال يواجه وبأبشع الوسائل عملية تدمير مشروع النهضة وتدمير البنى التحتية والفوقية في سوريا ليكون بذلك مثالاً مرعباً للشعوب العربية الأخرى إذا ما نوت ان تتحرّر من نير حكامها الظلمة في المستقبل”.