من الواضح أن روسيا في عجلة من أمرها لتعزيز وجودها ودورها في الشرق الأوسط عبر البوابة السورية، وهي تستغل في ذلك الانسحاب الأميركي في ظل تراكمات ثمانية أعوام من السياسات الرخوة غير المنتجة التي اعتمدها الرئيس باراك أوباما، وعدم وضوح ملامح الآتي المنتظر مع تسلّم الإدارة الجديدة بقيادة ترامب بعد أيام.
فما أن أكملت روسيا بالتنسيق مع إيران وتوابعها تدمير حلب، وحصرت المدنيين والمقاتلين في دائرة ضيّقة، حتى انتقلت إلى المفاوضات الميدانية، سواء مع ممثلي الفصائل في أنقرة وغيرها من الأماكن، أم مع قوى سياسية ومجتمعية سورية في قاعدة حميميم. ومن ثم كان الإعلان عن لقاء ثلاثي بين وزراء خارجية كل من سورية وتركيا وإيران. هذا اللقاء الذي لم يؤثر اغتيال السفير الروسي في تأجيله أو تغيير جدول أعماله، بل على العكس ساهم في رفع وتيرة الحماسة للمضي قدماً بجهود التقارب، واستغلال حالة التعاطف الرسمية لإضفاء مسحة من المصداقية على الموقف الروسي، هذا إلى جانب السعي الى خلق انطباع مفاده وجود إرادة جدية في حسم الموضوع السوري سياسياً عبر التوافق بين القوى الإقليمية الفاعلة، تمهيداً لترتيب لقاء قمة بين الأطراف المعنية، ومن ثم عقد لقاء سوري – سوري في كازاخستان توضع فيه المعارضة بجناحيها السياسي والعسكري أمام أحد الخيارين: إما الاعتراف بالهزيمة، والقبول بدور هامشي تابع في حكومة «وحدة وطنية»، تجسيداً لجهود تثبيت النظام الذي لم يعد موضوع تغييره بنداً أساسياً على قائمة أولويات الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية.أما الخيار الثاني، فيتمثّل في رفض المشاركة، أو عدم الموافقة على المشروع المقدّم الذي سيكون، وفق المسرّب حتى الآن، دون الحد الأدنى من بيان جنيف 1 بكثير، بل إنه يتعامل مع هذا الأخير كأنه غير موجود. وفي هذه الحالة، ستواجه هذه المعارضة جملة خلافات بينية يفرضها واقع الضعف الذاتي وجسامة التحديات. كما ستواجه في الوقت ذاته التهديد الروسي الذي ينذر بأن المفاوضات، أو بالأحرى «الحوارات»، وفق منظوره، ستكون بمن حضر، وبالتالي فالبدائل موجودة طالما هناك رغبة تركية وإيرانية برعاية روسية لتمرير الحل المرسوم للوضع السوري.
لكن روسيا، تدرك جيداً أن أطراف اللقاء الثلاثي يتفاوضون حول سورية الغربية من دون الشرقية والجنوبية، وأن الفاعل الإقليمي الأكثر تأثيراً في الساحتين العربية والإسلامية ما زال خارج دائرة التوافق، وتعرف تماماً أن أي حل مستقبلي في سورية لن يستقيم ما لم تشارك فيه السعودية، وتوافق عليه. ومن هنا، كانت دعوة الروس إلى السعودية للانضمام إلى من ألزمتهم المصالح والتحديات بتجاوز الخلافات. ولم يكتف الروس بذلك، بل قالوا أن الدعوة مفتوحة لكل من أراد الانضمام. وما يستنتج من هذا، أن الروس يريدون من ناحية الظهور في هيئة القوة العظمى القادرة على استيعاب الجميع، لكنهم في الوقت ذاته يعملون للحدّ من نفوذ إيران التي تلتقي مع روسيا على الكثير من المصالح، لكنها تفترق عنها في حساباتها الإقليمية ومشاريعها التوسعية.
ولعل هذه النقطة تفسّر إلى حدٍّ ما أسباب استعجال الروس، وحرصهم على متابعة مختلف مستويات الوضع السوري وتفرعاته، بتفصيلاته الدقيقة.
من ناحية ثانية، يبدو أن توافقاً تم بين الروس والإدارة الأميركية المقبلة حول تحجيم الدور الإيراني في سورية. وأمر كهذا يريح السوريين جميعاً على رغم كل خلافاتهم. كما يريح القوى الإقليمية الأخرى بخاصة تركيا والسعودية، ويمثل رسالة طمأنة لها، هذا علماً أن مفاتيح القسمين الشرقي والجنوبي من سورية هي بيد أميركا وحلفائها دون الآخرين.
وتبقى أوروبا الأكثر متابعة لما يجري والأكثر توجساً، لأنها تواجه تحدياً ثلاثي الأبعاد: سيل اللاجئين، الإرهاب، ومآلات تعاظم الدور الروسي بالنسبة إليها. فقد أثار وصول قوافل اللاجئين إلى مختلف الدول الأوروبية، وفي مقدمها ألمانيا والسويد وفرنسا وهولندا، مناقشات حامية بين مختلف الأحزاب الأوروبية، تمحورت حول كيفية معالجة الأزمة. وجاءت العمليات الإرهابية، ومنها الأخيرة التي تعرضت لها برلين، لتعزز مواقف المتطرفين دينياً وقومياً. كما أثّرت العمليات تلك في المزاج الشعبي العام، الأمر الذي ينذر بانفجارات عنصرية. ويبقى التحسّب الأوروبي للخطر الروسي: فما حصل في أوكرانيا تحديداً، والمخاوف التي تعيشها جمهوريات البلطيق، وكوابيس دول الشمال، ذلك كله يرسم ملامح هاجس جدّي يقلق.
ونتيجة لما تقدّم، يعيش الأوروبيون الآن اغتراباً سياسياً قلّ أن شعروا به مع الأميركيين من قبل. فهم الأكثر تضرراً مما حصل في سورية ومنطقة الشرق الأوسط وليبيا، لكنهم في الوقت ذاته الأبعد والأضعف تأثيراً، قياساً باللاعبين الأساسيين: روسيا وأميركا.
أما على صعيد المعارضة السورية، فهي مطالبة في جميع الأحوال بإجراء عملية تقويم شاملة لمسيرتها الماضية، لتجاوز الأخطاء القاتلة التي حصلت، لا سيما في الميدان العسكري. وهذا يستوجب القطع النهائي مع أيديولوجيات التشدّد والممارسات الإرهابية، سواء القاعدية منها أو ما بعد القاعدية، ووضع حد لحالات الفساد والتحكّم بحريات الناس وأرزاقهم ومصائرهم، وتجاوز حالات الانقسام العبثية، والالتزام بالخط الوطني وراية الثورة دون بقية الرايات، وتحقيق التكامل الفعلي مع الجناح السياسي في المعارضة الذي يحتاج، هو الآخر، إلى مزيد من الضبط لمعالجة السلبيات، كما يحتاج إلى التفعيل وتوسيع قاعدة التواصل والحوار مع مختلف الفاعليات السورية في الداخل والخارج، على أساس مشروع وطني متكامل يقدّم تصوراً لحل واقعي يطمئن كل السوريين من دون استثناء.
:عبد الباسط سيدا