لا "سفير" بعد اليوم الأخير من هذا العام. قرار إقفال الصحيفة العربية العريقة اتُّخذ من قبل ناشرها طلال سلمان. مطلع السنة ستغيب صحيفة "السفير" التي دافعت عن القضية الفلسطينة باخلاص وحضرت في كلّ القضايا العربية المعاصرة ولعبت دوراً أساسياً في الحياة الثقافية اليومية. طلال سلمان يروي قصة "العدد الأخير" بعد ثلاثة وأربعين عاماً على الإنطلاقة.
أسماء لامعة عملت في السفير وتخرجت منها. صفحاتها مرّ عليها كتّاب كبار. حضورها في نزلة السارولا إلى الحمرا في بيروت أضفى على الشارع نكهة خاصة، فكانت جزءاً من معالم الثقافة في المنطقة. رواد المقاهي لن يحملوا معهم "صوت الذين لا صوت لهم". الجريدة لن ترافق قهوتهم الصباحية. أشياء كثيرة تغيرت في شارع الحمرا في السنوات الأخيرة، لا بيكاديلي ولا ويمبي ولا كافيه دو باريس ولا مكتبات... والآن، لا جريدة السفير.
لا يصعب اجتياز حاجز الأمن أمام الصحيفة التي تقع في "زاروب سكني". المبنى قديم، رائحة الرطوبة تملأ المكان. رسومات ناجي العلي المعلقة على الجدران تعكس انتماءً إلى الهوية العربية. موسيقى فيروز كانت غائبة عن المصعد في هذه الزيارة "الوداعية".
توقف المصعد عند الطابق الرابع المؤدي إلى مكتب رئيس التحرير طلال سلمان. المقاعد والأدارج الخشبية تعود إلى موضة السبعينات. كاميرا المراقبة ترصد وصول سلمان، ثوان ويدخل إلى المكتب مستقبلاً بابتسامة تكسر جو الحزن المسيطر على أروقة الجريدة. يعترف أنّ جزءاً كبيراً من روحه سيموت نهار إغلاق الصحيفة "تجمعني علاقة بالحبر والورق والقراء والزملاء. إنه شغفي للكتابة". بالنسبة إلى سلمان السفير عشيقته علناً. هي الصديقة وحب حياته، بدأت حكايته معها يوم إصدار العدد الأول منها في 26/3/1974 وحملت شعار "جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان"، فضلاً عن شعار "صوت الذين لا صوت لهم". أكثر ما سيعزيه يوم الإغلاق مشاركة الناس وجعه، قد يبكي ويحزن ولكن عصر السفير انتهى، "فلكلّ حكاية نهاية" يقول سلمان.
إغلاق السفير لن يكون أسوأ يوم في حياة سلمان. يستذكر أحداثاً تركت في نفسه حزناً أشد عمقاً من بينها حرب 5 حزيران بين إسرائيل من جهة ومصر وسوريا والأردن من جهة أخرى، وانفكاك الوحدة العربية بين مصر وسوريا في 28 أيلول 1961. يصف نفسه بأنه ينتمي إلى جيل الأمّة والقومية العربية. يحزن على سوريا والعراق واليمن، أمّا السفير فهي "نكبة شخصية". يتوقع سلمان أن يكون اليوم المنتظر في بيروت مطلع عام 2017 "مثلج" يخّيم عليه جو من الأسى، ويأسف أنّ مدمني القراءة يختفون.
يروي "والد" السفير حادثة خلال أحد الاجتماعات التي أعقبت قرار إغلاق الصحيفة فيقول"سردت لزملائي عن بدايات مشواري المهني ممازحاً إياهم علّني أرى ابتسامة على وجوه يملؤها الحزن، ولكنّ ضحكات الزملاء كانت حزينة في داخلي، وأخفيت دمعتي". يخبر سلمان عن مسيرته التي بدأت مذ كان عمره 18 سنة. عمل مصححاً لغوياً ومحرراً لينتقل بعدها إلى إجراء مقابلات وتحقيقات يعتبرها "بسيطة" في مؤسسات مختلفة. أكثر من خمسين عاماً من العمل الشاق ترتسم خطوطاً حول عينيه وتلخّص مشوار مهنة المتاعب.
يرفض سلمان أن يعيش في الماضي الذي يعتز به، سيحاول أن يشغل نفسه بالكتابة، على أمل تحقيق أحد أحلامه بأن يكتب عن أمور لم يتوفر له الوقت أن ينشرها سابقاً. لا يهوى الجلوس في المقاهي. "أريد فقط أن أقرأ وأكتب" مؤكداً عشقه الأبدي. يقول ممازحاً إنه قد يتجه إلى ممارسة الرياضة الصباحية بعدما كان معتاداً على قراءة الصحيفة يومياً.
يطرح رحيل السفير تساؤلات حول ما إذا كانت هناك صحيفة أو وسيلة إعلامية أخرى سترفع صوت الذين لا صوت لهم، إلاّ أنّ الاعلامي المخضرم لا يمتلك جواباً على السؤال. يشير إلى انّه حاول جاهداً "أنّ تكون السفير صوت الذين لا صوت لهم، والفضل يعود إلى فريق شاركني انطلاقة الصحيفة والحفاظ عليها. حاولنا أن نعبّر عن هذا الصوت وأتمنى أن يأتي من يقوم بهذه المهمة".
وعلى الرغم من الحيرة التي تحيط بسؤال ملء فراغ السفير، فإن لقرار سلمان أحكامه ومبرراته "أطلقت الصحيفة بقرار مني وسأوقفها بقراري قبل أن تشيخ وتتعب. لا أريد أن يتحسر الناس على زمن كانت السفير فيه أقوى مهنياً. أريد للناس أن يتحسروا على السفير وهي في مجدها".
ويتوجه بتحية "عظيمة" إلى قراء واكبوا جريدة السفير على مدى أربعة عقود وحملوها في قلوبهم. "هم من أعطونا الزخم والرصيد المعنوي..هؤلاء الذين لا أعرف أسماءهم ولكن أشعر بهم لأنهم أعطوني قدري وقيمتي وأعطوا السفير هذا الرصيد العظيم. أشكر ربّي أني حفظتهم بوجداني وبالسفير" من دون أن ينسى سلمان أولئك الذين حموه خلال الحرب الأهلية اللبنانية وتعرضه لمحاولة اغتيال سنة 1984 وأكثر من محاولة لنسف منزله.
(الميادين)