ومن ثمَّ وجب علينا أن نعيد حساباتنا ونراجع أنفسنا في أخلاقنا ومعاملاتنا، وننظر بعين الناقد لتصرفاتنا، ونسأل أنفسنا هل غياب الأخلاق سيحقق لنا ما نريد، وهل علمنا النظري بتلك الأخلاق دون تطبيقها يفيدنا، أم أنه من الواجب علينا أن نعيش بأخلاقنا ونتواصل ونتعايش بها؟
أقول: لا يكفي الإنسان منا أبدا أن يكون ذا علم غزير، ومعرفة بأصول دينه وفروعه، وبما يجب عليه تجاه ربِّه وتجاه أُمَّته، وما ينجيه في الدنيا والآخرة، فلا تكفي كل هذه المعرفة، وإنما يجب أن تتحول هذه المعرفة إلى عمل، وأن يترجم هذا العلم إلى سلوك، وإذا لم يعمل المسلم بعلمه كان عليه وبالا، والجانب الأخلاقي في الإسلام له من الخطورة والأهمية ما ليس لغيره، وحسبنا أن نقف مع حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي جمع فيه كل البرِّ في كلمة واحدة، فقال: "البر حُسن الخُلق" (رواه مسلم)، كما جعل الخُلق الحَسن معيار حُبِّه -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن مِن أحبّكم إليَّ أحسنكم خُلقا" (رواه البخاري)، كما سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يُدخلُ الناس الجنة، قال: "تقوى اللهِ وحُسنُ الخُلقِ" ( رواه الترمذي).
والأخلاق هي رافعة المجتمع، فحين تكون الأخلاق موجودة في سلوكيات أي مجتمع من المجتمعات فهذا يعني أنّ هذا المجتمع متحضر متمدن يسعى للتّقدم والرِّفعة بين الأمم، كما أنّ الأخلاق هي معيار بقاء الأمم والحضارات، وكما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إن خيريّة الرجل لا تقاس بصلاته وصيامه فحسب بل لا بد من النظر في أخلاقه وشيمه، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا مُتفحشا وكان يقول: (خياركم أحاسنكم أخلاقا).
وقد بيّن ابن مبارك رحمه الله حسن الخلق فقال: "هو طلاقة الوجه وبذل المعروف وكف الأذى"،
وقال الإمام الغزالي رحمه الله: "إن الألفة ثمرة حسن الخلق، والتفرق ثمرة سوء الخلق، فحسن الخلق يوجب التحابّ، والتآلف، والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض، والتحاسد، والتدابر، وقد قيل قديما: اتباع الهوى يُفرِّق كما أن الحب والإخاء يُجمِّع، وإن الاتحاد قوة، والتفرق وهن وضعف، وإن سبيل الله واحد، وسبل الشيطان متفرقة، فمن تبعها فقد ضل وغوى".
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحُسن الخلق؛ لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته.
فهذه المبادئ الأخلاقية ضرورية في بناء المجتمعات سياسيا واجتماعيا ودينيا وثقافيا، كما هي محاور فكرية متباينة مستنيرة ترسي دعائم قيام المجتمع الإنساني، كما يريد خالق البشر، ويشعر الإنسان من خلالها أنه خليفة الله في الأرض بما ناله من تكريم إلهي، يحيا من خلاله حياة آدمية كما ينبغي أن تكون.
إذن أين تكمن المشكلة؟ أتصور أن أصل الداء لدينا أننا لا نواجه أنفسنا بالمشكلة، ولا نبحث لها عن حل ناجع، وليست لدينا، في غالب الأحيان، الإرادة الحقيقية لتغيير الأوضاع وتحسين الأخلاق.
ومن أهم أسباب الأزمة الأخلاقية التي نعيشها:
• ضعف التدين في نفوس المسلمين.
• التصور الخاطئ لشرائع الإسلام وأحكامه وروحه.
• غياب القدوة الصالحة في كثير من المجالات.
• طغيان الجانب المادي والاهتمام بالأعمال الدنيوية فقط في العلاقات والأعمال.
• قلة البرامج التوعوية والأنشطة التي تعنى بالجانب الأخلاقي.
• قلة التربية الخلقية في مناهج التعليم على كافة المستويات.
• عدم سن أنظمة وقوانين تحافظ على المبادئ والقيم الأخلاقية العامة وتوقع العقوبات المناسبة على مرتكبي الجرائم الأخلاقية المتجددة.
وإذا أردنا أن نُصحِّح اتجاه البوصلة مرة أخرى علينا أن نولي الأخلاق عناية كبيرة في حياتنا، لكي ننهض مرة أخرى، ونسعى أن نكون في الوضع الذي يليق بالأمة الإسلامية التي صدّرت الحضارة للعالم كله، حينما كانت في كامل قوتها.
وحقيقة الأمر أن من معالم الحضارة والرقي، التمسك بالأخلاق والعيش بها، فقد ذكر "ولديورانت"، الفيلسوف المعروف في كتابه "قصةالحضارة" أربعة عناصر للحضارة على الإطلاق بعد أن عرّفها بأنها نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي فقال: "تتكون من أربعة عناصر هي: المواد الاقتصادية والنظم السياسية والتقاليد الخلقية ومتابعة العلوم والفنون".
إن الواقع المُشاهد لسلوكيات المسلمين في الوقت الراهن لتصيبه دهشة شديدة مما آل إليه أمر المسلمين!