تبرّأ رئيس الوزراء العراقي، حيدر عبادي (أو العبادي)، من مليشيات الحشد الشعبي التي تدفقت على حلب وسورية، قائلاً "إن أية جهة عراقية تقاتل في سورية لا تمثلنا، وإن العراق لا يريد أن يشارك في صراعات إقليمية". ولعلها المرة الأولى التي يرفع فيها مسؤول عراقي رفيع الغطاء عن المليشيات الشيعية التي ما انفكت منذ زهاء أربعة أعوام عن التدفق إلى سورية، وخوض قتالٍ ضد المعارضة المسلحة والمجتمع السنّي هناك. وتتبع هذه المليشيات للحشد الشعبي الذي يضم نحو 70 مجموعة مسلحة، وكان البرلمان العراقي قد شرّع يوم 26 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي قانوناً يضمها إلى المؤسسة العسكرية، على أن تتلقى تمويلاً حكومياً، وتتبع لرئاسة الوزراء. من حق العبادي، وقد أصبح المسؤول الأعلى عن الحشد، ومن واجبه، أن يختطّ سياسة وطنية مستقلة تخدم شعبه ووطنه، ذلك أن زجّ قوات عراقية في حربٍ طائفيةٍ مقيتةٍ ضد السوريين لن يؤدي سوى إلى شروخ عميقة ودائمة في العلاقات بين الشعبين، وإلى سقوط ضحايا من الطرفين، كان يمكن أن لا يسقطوا، لو أن القيادة المباشرة للحشد ابتعدت عن الانخراط في صراعاتٍ إقليمية وطائفية. ويذكر هنا أن رئيس الوزراء السابق وزعيم حزب الدعوة، نوري المالكي، كان قد دعا بحماسةٍ شديدةٍ قبل أسابيع خلال تجمع حاشد في كربلاء إلى أن تتوجّه مليشيات الحشد إلى دولٍ عربيةٍ، منها سورية واليمن، للقتال هناك تحت رايات طائفية، من أجل تكريس صراع شيعي سنّي وتعميمه في المنطقة. 
لم تظهر على الفور ردود فعل على موقف العبادي، وخصوصاً في دائرة "التحالف الوطني" (ائتلاف القوى الشيعية). ومن المنتظر أن يتعرّض الرجل لضغوط إيرانية كي "يصحّح" تصريحه، بحيث يتراجع عن مضمونه. كما من المنتظر أن يعمد المالكي المنافس اللدود  
"جدية طرح العبادي تظل منوطةً بالبدء لتنفيذ هذا التوجه ميدانياً، وبدء سحب عناصر المليشيات" للعبادي إلى الرد على دعوة وقف الانغماس العراقي في الصراع السوري، واستغلال ذلك لشن حملةٍ شرسة على الرجل، جرياً على نهج المالكي في المساجلة مع كل إجراءٍ يتخذه رئيس الحكومة، وكل موقفٍ ذي شأن يعبّر عنه خلَفه على رأس السلطة التنفيذية، وتتسع دائرة الأطراف التي يخاصمها المالكي، لتشمل التيار الصدري والمجلس الأعلى (عمار الحكيم)، كما يتخذ المالكي موقفاً مناوئاً لمشروع التسوية الذي يتبناه بحماسة الحكيم، ويؤيده العبادي.
موقف العبادي المتّسم بقدرٍ ملحوظ من الشجاعة الأدبية، لا تضاهيه سوى مواقف بعض القيادات في أوساط رجال الدين الشيعة في لبنان، وفي أوساط حركة أمل بزعامة نبيه بري، ولدى الأمين العام الأسبق لحزب الله صبحي الطفيلي، ضد انغماس قيادة الحزب في الحرب السورية، علاوة بالطبع على شريحةٍ واسعة من اللبنانيين الديمقراطيين والعلمانيين المنحدرين من الطائفة الشيعية، والذين يرفضون بحزم حرب حزب الله في سورية وضد شعبها. أما في العراق، فإضافةً إلى مواقف الداعية الشيخ الصرخي الحسني المناوئة للتبعية لإيران، فإن مقتدى الصدر كان أبدى تردّداً قبل نحو عامين من الانغماس في الحرب السورية، قبل أن يتعرّض لضغوط متتابعة من قيادة حزب الله، في سبيل مشاركة تياره. أما المرجع السيستاني فلم يُعرف عنه تأييده أو رفضه انخراط العراقيين الشيعة في حربٍ طائفية في سورية، وإن كان السمت المعتدل الذي يتسم به المرجع ترجّح نفوره من الانغماس في هذه الحرب الدموية.
من شأن موقف العبادي إذا ما تمّ التمسك به، وإذا صمد الرجل أمام ضغوط منتظرة سيكون مصدرها الأساسي من طهران، أن يشكل بداية تحوّل في بيئة الشيعة السياسية العراقية التي ذهبت بعيداً في الحسابات الفئوية، والانغلاق على المكوّن الآخر، والانقطاع عن المحيط 
"موقف العبادي المتّسم بقدرٍ ملحوظ من الشجاعة الأدبية، لا تضاهيه سوى مواقف بعض القيادات في أوساط رجال الدين الشيعة في لبنان" العربي. ومن الواضح أن الأعداد الكبيرة للضحايا التي مُنيت بها المليشيات (من أبرزها النجباء، عصائب أهل الحق، وأبو الفضل العباس، قوات الإمام المهدي) قد دفعت الرجل ليجهر بما بات يعتمل في أوساط شيعية من توجهات، بضرورة التوقف عن المشاركة في هذه الحرب الطائفية العبثية. علماً أن الوضع الأمني في العراق ليس مُستتباّ أو مثالياً، حتى يُصار إلى تصدير قواتٍ إلى الخارج، فالعراق أولى بتنظيم صفوف شعبه وتجنيد طاقاته ضد الإرهاب، وضد الانفلات الأمني، وضد الخارجين عن القانون، وبعض هؤلاء أعضاء في المليشيات. ويستذكر المرء هنا أن وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، زار بغداد قبل أشهر( 25 أغسطس/ آب)، وعلم آنذاك أن زيارته استهدفت طلب إرسال مقاتلين إلى سورية لإسناد النظام. وعلى الرغم من وقوع معركة الموصل ضد "داعش"، إلا أن غلاة القادة في المليشيات دفعوا نحو التوجه إلى حلب لنيل "مجد" إسقاط الشهباء وإذلال أهلها المحاصرين، وكان عديد المليشيات يزيد أو يقل حسب الظروف، وحسب تقديرات قادة المليشيات، ووفق الأحوال الأمنية القائمة في العراق. 
علاوة على ما تقدم، هناك من يعتقد، وقد يكون حيدر العبادي من بينهم، أن الحرب في سورية تشارف على الانتهاء بعد سقوط حلب، وبعد التقارب الروسي التركي الإيراني في لقاء موسكو أخيراً، فرأى أن يبادر، من جهته، لوقف الانغماس العراقي في الحرب، ولإعفاء المجتمع العراقي من ويلات هذه المشاركة، ولإرسال القليل من الود نحو السوريين المنكوبين، ونحو الدول العربية، وغالبيتها سنية. والأهم نزعته الظاهرة لتكريس قيادته العليا، أو قيادته السياسية للحشد الشعبي أمام القادة العسكريين من زعماء المليشيات، وكذلك أمام القيادة العسكرية الإيرانية ذات النفوذ الطاغي على الحشد، بعد تمرير قانون الحشد في البرلمان.
يبقى أن جدية طرح العبادي تظل منوطةً بالبدء لتنفيذ هذا التوجه ميدانياً، وبدء سحب عناصر المليشيات، وظهور لقطاتٍ لهؤلاء أحياء، وهم عائدون بصورة نهائية إلى وطنهم وذويهم، بدلاً من عودتهم في صناديق، وكان قد عاد بالفعل 32 عنصراً من حركة النجباء في صناديق من حلب، يوم بث تصريح العبادي الأربعاء 21 ديسمبر/ كانون الأول الجاري. 

 

محمود الريماوي