حتى إشعار آخر، سيظل من الأسهل، بل الأقرب مطابقة لواقع الحال، الحديث عن الوضع اللبناني، أي تناول لبنان على صعيد عام فيه الكثير من الاختلاط وعدم الوضوح، وفيه أيضاً كثير من التداخل وعدم التمييز بين الحدود التي تجتمع على تخومها أو خلفها، السمات الاجتماعية الغائمة حالياً، والسمات الأهلية التي ينّد عنها وضوح أكثر، عندما يكون الأمر أمر الفئة أو الجماعة المخصوصة، وتتلعثم بالإبهام المقصود أو البنيوي الملازم لها، عندما يكون الموضوع موضوع مخاطبة الجماعات والفئات الأخرى.
ضمن هذا الوضع الذي هو عام ومتداخل، والذي يجمع التباين والتقارب، ولا يغيب عنه المفهوم حيناً وغير المفهوم أحياناً، ضمن الوضع هذا، تبدو إمكانية الحديث عن المكونات "الوضعية" أيسر منالاً، أي أن حديث القسمة والتمايز والمفرق ينقاد للكلمات الوصفية أكثر من حديث الجمع والتجانس والجملة. ولكن مما يجب الانتباه إليه مسبقاً، أن فهم المتفرق في أحواله الموزعة والمشتتة، لا يفضي تلقائياً أو مباشرة إلى خلاصة جمعية تجميعية في الوضع اللبناني المعروف، وغالباً ما تحال الخلاصة إلى مستقبل غير محدد المعالم، يكتفي المحليون إليه بعناوين عامة تقرب إلى الشعارية التي لا تخاطب أحداً، أي أنها إذ تخاطب أفراداً أو قلة "نخبوية"، فإنها لا تخاطب كتلة شعبية متداخلة اجتماعياً ومتجانسة سياسياً وذات مصالح آنية وقريبة المدى، تتقاطع في أهدافها وفي توجهاتها وفي تحركاتها المطلبية. ولأن طابع الإحالة الشعارية هو ما عليه، فإن القائلين به يبدون في حال من يريد إرضاء الذات آنياً، وإعفاءها من وطأة المسؤولية العامة مستقبلياً.
في الوضع اللبناني الحالي تجمعات تركت خلفها الإرث الذي تراكم خلال سنوات الاستقلال الطويلة، واستعادت ما كان لها من خصوصية بنيوية أصلية، مطعمة ببعض الآثار والتأثيرات التي حاولتها التجربة اللبنانية للدخول في العصر، من خلال اتصالها بالعالم الدولي الخارجي، ومن خلال تواصلها بالمحيط الخارجي العربي والإقليمي. الإرث المتروك هو الحصيلة العامة لمحاولات الدمج والاندماج اللبنانيين على أسس ترتفع فوق تعريفات الجماعة، وعلى مواصفات تعلو فوق مواصفات الانتماء إلى القبيلة. لكن معادلة التحالف بين الدين والعصبية والسلطان، تفوقت في الوضع اللبناني، ويبدو تفوقها، الذي هو طابع الوضع الراهن، مستمراً إلى أجل طويل.
ولأن التحالف الذي ذكرنا. كان واحداً في البلاد العربية التي تحكمت بها النظم الاستبدادية، فإن تلك البلاد عاشت استقراراً ظاهرياً يخفي غلياناً داخلياً، واستمر الحال حتى الانفجار الذي نشاهد تطوراته. إذن، استقرار معادلة السلطان وتوابعها كانت مهتزة عندما بدت ظاهرياً أنها ثابتة، وكانت متناثرة عندما كانت تظهر كنواة صلبة للعيان.
لبنان وأوضاعه، عرفا معادلات مشابهة لأن السلطان غير واحد، وكذلك الدين، وإن ذهب البعض إلى أن القبيلة، التي هي ثالث أقانيم المعادلة، واحدة، فقد وُجد من يشكك في أصل العنصر القبلي، وصار هذا مستودع خلاف بين فينيقي وعربي، مثلما صار مبعث خلاف بين الأديان والمذاهب. مع قليل من التصرف، يمكن الزعم أن تعدد الأقانيم الموزعة بين الأديان والأصل القبلي، عاد ليوحده سلطان واحد هو سلطان النظام الطائفي، أي أن المتنازعين عرقياً وثقافياً ودينياً، ارتضوا توحيد "آلهتهم"، فجعلوا لهم وثناً من مصالح وثقافة، واتفقوا على أن يحجوا إليه ويطوفوا حوله، وعلى أن يشعلوا في محرابه البخور ويقسمون باسم "عظمته" أغلظ الإيمان. هذا السلطان الواحد المتعدد شكَّل لأوقات طويلة، عامل الاستقرار الخفي، عندما كان الظاهر وجه الاهتزاز، وكان الثابت المتفق عليه، الذي رافق كل التحولات. خلاصة مهمة: بدا السلطان اللبناني الطائفي واحداً من أعتى السلاطين العرب، وبدا نظامه أرسخ من سائر أقرانه من الأنظمة العربية.
حالياً، يقيم الوضع اللبناني في ظل سلطان ثبات الاهتزاز، مثلما يرتاح في فيء الاهتزاز العابر للسلطان الثابت، وأكثر من أي وقت مضى يظهر "الرعايا" المطمئنون إلى سطوة سلطانهم الناعمة، سلاسة انقياد، مثلما يظهرون استعداداً للدفاع عن المعادلة السلطانية التي يرون فيها ضمانة لنظراتهم عن ذواتهم، وحصانة لهم من نظرات الذين يقيمون معهم على تساكن هش أو على جوار ممل وسقيم.
تشمل الراحة التي تمَّت الإشارة إليها معارضين نظريين سابقين، وتضم واقعيين سياسيين متقادمين. يتوزع هؤلاء على ما كان يساراً قومياً وشيوعياً واشتراكياً، وعلى ما كان فئات ليبرالية أو "عصرية"، كل ذلك الصف، تراجعت طموحاته إلى حدود الرضى بوظيفة عامة، أو بالحصول على مقعد نيابي في مجمع "الملل والنحل" اللبنانية.
وصف الوضع اللبناني هذا، الذي يحمل في المناسبة الشيء ونقيضه، ليس نهاية تاريخ اجتماعي أو كياني، بل هو مقدمة لمباشرة البحث عن بدائل لقوى معارضة انتهى تاريخها وصارت عبئاً على التاريخ الجديد، ولمباشرة بناء قوى مناوئة لنظام السلطان الطائفي الذي يظن سدنته أن ثبات تاريخ وضعه نهاية لكل تاريخ، وأنه صار هو وحده نهاية التاريخ.
أحمد جابر