«مليون ليرة !». «نعم مسيو بَس مليون». «يعني مليون؟». بعينين جاحظتين يُحاول فادي استيعابَ كلفة اللعبة التي وقعَ نظرُ ابنه عليها، قبل أن يتمنّى على الموظفة التأكّد من عدد الأصفار، معلّقاً: «راتبي كِلّو ع بعضو 850 ألف ليرة»، فجاءَه الجواب: «وِي مسيو، إبنَك نقّى رانج ع الكهربا معه شهادة صُنع من المنشأ». تلعثَم فادي، وندمَ على اللحظة التي اصطحبَ فيها ابنَه ليختار هديةَ عيد الميلاد، حاولَ كبتَ غصّتِه بابتسامةٍ مصطنَعة قائلاً: «ألله كريم، غداً نَطلبها من بابا نويل».لم يذُق فادي طعمَ النوم، بقيَ يتقلّب في فراشه: «من أين أوفّر لصغيري الهدية؟ ماذا لو تَباهى عليه ابنُ رئيس البلدية!...» هواجس ككرةِ ثلج اجتاحت فكرَ الوالد، قبل أن يحاول تهدئةَ روعه مردّداً في قرارة نفسه: «يمكِن مسموح التقسيط، لازم إستفسِر!».
750 ألف ليرة!
يطلّ عيد الميلاد ومعظم الأولاد منهمكون في اختيار ألعابهم. وفي وقتٍ وجَد فادي الحلّ لنفسِه، تقبَع جانيت تحاكي نفسَها: «كيف يعقل لمطبخ اللعبة أن يكون سعره 750 ألف ليرة؟ شو بيطبُخ وحدو! ماذا عساي أقول لزوجي؟».
غلبَت الحيرة قلبَ تلك الأمّ التي أرادت إسعادَ صغيرتها فتوجّهت إلى المتجر في الأشرفية، مستفسرةً، فوَجدت زحمةَ أمّهات حول ذاك المطبخ مقبلاتٍ على شرائه، فانتابَها الخجل للوهلة الأولى، ودنَت من إحدى الموظفات مستفسرةً همساً: «شو قصّة المطبخ»، فكان الجواب: «يِيي مدام ولوَ ! هيدا فِيُو خشب مستورَد»، فردّت المرأة: «آه أوكي، أوكي»، منسحبةً تدريجاً وعلاماتُ الاستغراب تغمر محيّاها.
فكّرَت مليّاً في نفسها وقالت: «إذا صارحتُ زوجي بقيمة الهدية قد يُعيدني إلى منزل أهلي، لذا سأسعى جاهدةً لتنزع نوال (ابنتها) الفكرةَ من رأسها، وإلّا سأضطر للعمل «أوفر تايم» لتسديد كلفةِ الهدية».
«شِي مِتل الخيال»، بهذه العبارة يُمكن اختصار واقع حال أسعار ألعاب الأولاد في الأعياد، وقد يَعتبر البعض أنه ليس من الضرورة التوجّه إلى خيارات باهظة الثمن، إذ هناك ما دون الـ 50 دولاراً، مثل السلاح، القوس والنشّاب، سيارة التحكّم عند بُعد، وغيرها.
إلّا أنّ معظم الأهالي الذين التقَتهم «الجمهورية» أعربوا عن مدى صعوبة إقناع الولد أو زرعِ البسمة على وجهه بهدية بسيطة، فتقول إحدى الأمّهات: «يصعب إرضاء أولاد هذا الجيل، فهُم لا ينبهرون بأيّ شيء، حتى الأدوات التكنولوجية بدأوا يملّون منها، لذا «ألله ينجّينا» وين رايحين».
تُقاطعها جارتُها التي كان لها تجربة سيّئة مع الهدايا «البسيطة»، قائلةً: «بينما كان ابني يَفتح الهدية «انتزعَت»، وأمضينا العيد نكفكفُ دموعَه ونحاول إصلاحَ اللعبة»، مضيفةً: «مصيبة إذا دفَعنا ومصيبتين إذا «استَرخصنا».
ضحكة أبي...
حيال تأفّفِ الأهل من أسعار الألعاب، وانهماك الأولاد في البحث عن طيّارة، باربي، iPad... تَدمع عينا نسرين ابنة الـ 11 سنة، وتتذكّر وهي في طريق العودة من المدرسة إلى المنزل، رفاقَها المنشغلين بالتحدّث عن الهدايا التي وُعِدوا بها: «أنا البابا بدّو يجبلي...، وأنا الماما جابِتلي...»، أمّا هي فيحزّ في نفسها أنّه لم يتسنَّ لها يوماً ولو للحظة أن تُمسك بيدِ والدها ليختارا معاً هدية العيد. فلم تجد ما تشارك به رفاقَها، فضّلَت ألفَ مرّة الصمت على مصارحتِهم بأنّ والديها انفصَلا بعد ولادتها وبأنّها تعيش في منزل جدّها.
وعندما كان يصرّ أحدهم على معرفة جوابها: «إنتِ شو بدّو يجبلِك بابا نويل؟»، تعضّ على شفتِها قائلةً: «أنا صِرت كبيرة، هوّي بَس بيجي لعِند الزغار».
في الظاهر كانت تبدو نسرين متماسكةً، لكنّها في الداخل، بركانٌ يكاد ينفجر. خصوصاً عندما يتحلّق حولها البنات ليخبِرن عن انطباعهنّ بعد مرافقة أمّهاتهنّ لدى مصفّف الشعر، فكانت تدَّعي أنّ أمّها شعرُها قصير ولا تحتاج إلى مصفّف. ولكن في الحقيقة كانت تشتهي أن تمسكَ خصلةً مِن شعر رأس والدتها، أو تتعرّف إلى رائحة عطرها... وغيرها من المواقف التي تحزّ بنفسها في كلّ عيد ومع كل مناسبة.
لذا ما إن وصَلت إلى المنزل حتى انهالت على جدّها بالأسئلة: «هل يمكن لبابا نويل أن يشتري لي ضحكةَ أبي يا جدّي؟». «هل يمكن له أن يقودني إلى شذى عطر أمّي؟»، إشتقتُ لهما، ما الحلّ يا جدّي؟... أسئلة أربَكت الجدّ الذي لم يجد مفرّاً من حفيدته إلّا أن يلهيَها ويصطحبَها إلى السوق لتأمّلِ الزينة.
أبعد من الهدية
تُولي الاختصاصية في عِلم النفس التربوي جويل فغالي كميد، أهمّية كبيرة لتبادلِ الهدايا: «إنّها عملية تَواصُل وتعبير عن مشاعر تقدير أو محبّة، تؤكّد الصلة التي تربط بين طرفين»، وتتوقّف في حديثها لـ«الجمهورية» عند أثر الهدية قائلةً: « إنّها تخلق واقعاً إيجابياً بين الأشخاص، وتكسر جليدَ العلاقات وتُرمّم أخرى كادت أن تفشل».
وتَلفت إلى أنّ للهدية في مرحلة الطفولة أهمّية بالغة: «هي بمثابة مكافأة على مجهودٍ ما كان قد بَذله الطفل، ويمكن اعتبارُها وسيلةً لتحفيزه على متابعةِ جهوده أو تغيير تصرّفٍ ما أو عادةٍ سيّئة».
معايير الاختيار
أمّا بالنسبة إلى انشغال الأهل بشراء الهدايا لأولادهم في فترة العيد، فتصفُ كميد العملية بـ»الصحّية والضرورية»، لكن «شرط أن يراعوا في اختيارهم ليس فقط مدى إعجابه بها، إنّما أن تناسبَ عمرَه، وينتفعَ منها»، مذكّرةً بأنّ «الهدية لا يمكن أن تأخذ مكانةَ الأهل وتملأ الفراغَ الذي قد يُسبّبه غيابُهم أو حضورهم غير الفعّال إلى جانب أطفالهم، لذا بصرفِ النظر عن ثمنِ الهدية، لا قيمةَ لها ما لم تكن مصحوبةً بمحبّة جمّة بعيدة عن الرياء والتمثيل».
وعمّا إذا كان من الأفضل أن يُفسَح المجال أمام الطفل ليختار ما يريده أو أن يختار الأهلُ له، تجد كمَيد «أنّ الأسلوبين مفيدان، ولكن أفضّل شخصياً أن يعبّر الولد عن رغبته، وأن يخبره أهله أنّهم سيختارون له المناسب على كلّ الأصعدة».
وفي حال تعذّر الأهل لظروف معيشية عن شراء الهدايا، فهُم يعيشون عقدةَ ذنب، وهنا تقول كميد: «وسط مجتمعنا الاستهلاكي، كثرَت متطلبات الأولاد، نرى الأهلَ ينساقون إلى تلبية حاجات أولادهم من دون أيّ رادع حِرصاً منهم على النموّ الصحيح لأولادهم، بَيد أنّ هذه النظرية قد تشوبها شوائب عدّة.
ما يهمّ طفلي هو أنا وليس ما أهديه أو أقدّمه إليه مادياً، لذا قد تكون القبلة، النزهة، اللعبُ معه، قراءة قصةله ... أثمنَ مِن أيّ هدية أخرى، لذا فليتحرّر الأهل من شعورهم بالذنب، وليهتمّوا بتأمين المحبّة والاحترام والثقة لأولادهم، والباقي تفاصيل مهما بلغ مستوى الفقر».
ما لا يُقدَّر بثمن
يَحلُّ العيد، والعيون، شيباً وشباباً، مشدودةٌ إلى الهدايا، وفي قرارةِ أنفسنا نَحلم بالهدية الأغلى، بالهدية التي قد تحصد أكبرَ عدد من «لايكات»، وربّما البعض منّا قد لا يجد من يقدّم إليه هدية... أيّاً تكن الظروف، أيّاً تكن قيمة الهدية، يبقى أن نسرق برهةً وسط زحمة الحياة، ونعودَ إلى ذواتنا، لنكتشفَ فيها الهدية الأغلى والأحلى التي لا تُقدّر بثمن، وهي ولادة يسوع في قلوبنا، ومعها الرجاء بغَدٍ أفضل.