الثلاثي «الضامن» لتسوية سياسية في شأن سورية تطيح أسس ما يسمى ببيان جنيف ومبادئه وعملية فيينا، هو الثلاثي الميداني في الحرب السورية الذي يعتبر المعادلة العسكرية جاهزة لبدء تقاسم النفوذ واقتسام الكعكة في صفقة ثلاثية غيّبت الولايات المتحدة وأوروبا والدول الخليجية والأمم المتحدة.
وزراء خارجية ودفاع روسيا وإيران وتركيا اجتمعوا هذا الأسبوع في لقاء ما بعد حلب لرسم خريطة طريق سياسية تلغي ما كان تم الاتفاق عليه لعملية انتقالية لهيئة حكم ذات صلاحيات كاملة تنتهي بانتخابات رئاسية. الثلاثي «الضامن» يضمن أكثر ما يضمن بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة كامل الصلاحيات يلبي المطالب الروسية والإيرانية والتركية. تمَّ استبعاد الدول العربية عن المسألة السورية، بالذات الدول الخليجية التي وثقت بعلاقة مميزة مع تركيا. واضح أن تركيا استبدلت هذه العلاقة بانضمامها إلى روسيا وإيران في استراتيجية خبيثة.
طورت أنقرة استراتيجية تكريس الأدوار الروسية والإيرانية في سورية، فضمنت لنفسها مقعدا في حلف «الرابحين»، في رأيها، غير آبهة بالتزاماتها ووعودها لدول الخليج. وفّرت تركيا الغطاء السُنّي لموسكو لتهرب من تهمة التحالف الروسي– الشيعي في معركة حلب، إحدى أكبر المدن السنّية العربية. فماذا عن موسكو بعد حلب؟ ماذا عن تركيا بعد الصفقة مع روسيا في شأن حلب والكرد في سورية؟ ماذا عن إيران بعد فوزها بحلب؟ وماذا ستفعل الدول الخليجية والدول الأوروبية والولايات المتحدة بعد حلب؟
استبعاد روسيا وإيران وتركيا الولايات المتحدة من لقاء موسكو يأتي استطرادا لاستبعادها نفسها من ساحة الحرب السورية وتلبية لرغبات إدارة أوباما بالاستبعاد. يأتي هذا اللقاء الثلاثي أيضا استعدادا لمرحلة دونالد ترامب وتهيئة لأرضية التعامل معه انطلاقا من التربة السورية.
عنوان تلك المرحلة، وفق اقتناع روسي وإيراني وتركي ومصري، هو «بوتين وترامب»، فلقد نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتصوير نفسه أهم شريك للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، على أساس رغبتهما المتبادلة في التعايش معا والتمتع بفن إبرام الصفقات.
إيران قررت أن ركوب القافلة الروسية هو أفضل الطرق إلى البيت الأبيض، فقدّمت نفسها حليفا استراتيجيا وشريك حرب ميدانيا يصعب على روسيا الاستغناء عنه. مصر رأت في علاقة بوتين وترامب موقع تموضع استراتيجي لها تعززه علاقاتها الاقتصادية الجيدة مع الصين، فركبت الحافلة الروسية في سورية. أما تركيا، فوجدت مصلحتها مكرّرة بأضعاف في القافلة الروسية المتوجهة من حلب إلى البيت الأبيض برسالة تطمئن دونالد ترامب.
أمريكا الغائبة طوعا عن سورية تبدو مهمشة وهزيلة وهي تكتفي بابتسامة وزير الخارجية الضعيف جون كيري ومصافحته نظيره القدير سيرغي لافروف. إدارة أوباما تغادر واشنطن، وحلب تطاردها، فلقد ساهم الرئيس الأمريكي المغادر في مأساة سورية الإنسانية عبر امتناعه عن الانخراط، نائيا بالولايات المتحدة عمدا عن سورية، وموفّرا الأرضية لروسيا لتعيد بناء نفوذها في الشرق الأوسط، مكافئا راديكالية إيران ومباركا تدخلها العسكري في سورية حتى قبل إبطال قرارات مجلس الأمن التي حظرت عليها أي وجود عسكري خارج حدودها.
للتذكير، إبطال هذه القرارات جاء جزءا من رزمة التفاهمات مع طهران على الصفقة النووية التي أدت إلى هوس باراك أوباما بإنجازها حتى على حساب القيم الأمريكية الأساسية. باراك أوباما يغادر البيت الأبيض بعد أسابيع قليلة يتأبط ملفّين لهما عنوان الخط الأحمر الذي تراجع الرئيس الأمريكي عنه، هما إنذاره في شأن استخدام دمشق السلاح الكيماوي وإعلانه أن على الرئيس السوري بشار الأسد أن يرحل.
الرئيس المنتخب دونالد ترامب بدأ يمارس الرئاسة الأمريكية قبل أن يتسلم المنصب رسميا، فمن أجله أسرع فلاديمير بوتين إلى أقصى استخدام لما يسمى الفترة الضائعة بين إدارتين أمريكيتين، فصعّد عسكريا في حلب، ونسّق سياسيا وعسكريا مع الدولتين اللتين تشاركت إحداهما معه حليفا ميدانيا في الحرب السورية، ودخلت الأخرى ساحة الحرب السورية ضمن صفقة معه.
فلاديمير بوتين أراد أن يقدّم إلى دونالد ترامب هدية ثمينة مصنوعة في سورية غلّفها بعنوان القضاء على «داعش» و «جبهة النصرة» وكل من له علاقة بهذا الإرهاب. بوتين قدّم إلى ترامب إنجاز معركة حلب كي لا يرثها الرئيس الجديد في مطلع عهده وكي يريحه منها. بوتين قرر أن صديقه المحبب إليه ترامب لا يستسيغ التعقيدات وإنما يفضل لعبة ذكية عند إبرام الصفقات، لذلك أراد بوتين استكمال «تنظيف» حلب قبل دخول دونالد ترامب البيت الأبيض.
إنما استراتيجية بوتين لا تقتصر على إجراءات الترحيب بدونالد ترامب رئيسا أمريكيا صديقا له. إنه يتهيّأ للصفقة الكبرى بعدما يثبّت عودة روسيا العظمى إلى الساحة الدولية عبر البوابة السورية.
تأتي الانتصارات الروسية العسكرية في سورية وسط عداء متنام ضد روسيا الجديدة العائدة إلى الشرق الأوسط. فلاديمير بوتين –مهما نفى ومهما غلّف مع تركيا ومصر– يبقى الرئيس الروسي الذي عقد صفقة تحالف استراتيجي مع إيران، بالذات في سورية. فعل ذلك وهو يصيح أنه ضد الإسلام الراديكالي وضد صعود الإسلام إلى السلطة، فتبيّن أنه كان يقصد السُنَّة وليس الشيعة، الذين أتوا بأول جمهورية تفرض الدين على الدولة عبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأنه ضد الإسلام الراديكالي السُنِّي إنما مع الإسلام الراديكالي الشيعي.
هكذا، أعاد فلاديمير بوتين روسيا إلى الشرق الأوسط عبر الباب المذهبي ليساهم جذريا في تأجيج الصراع السنّي– الشيعي كما سبق أن فعلت إدارات أمريكية عدة. لم تأتِ العودة الروسية إلى المنطقة العربية وسط ترحيب وتقدير واحترام لدورها في سورية، وإنما العكس. هذا استثمار روسي محوط بعلامة استفهام كبيرة، لا سيما أن شبح الانتقام سيلازم روسيا.
العلاقة الروسية– الإيرانية ستكون موقع مراقبة وترقّب بعدما كان واضحا تماما أن الشراكة الميدانية بينهما في سورية تحالفية بامتياز. وهذه رسالة واضحة للدول الخليجية، التي ترى موسكو أنها على مواقف متباينة في شأن العلاقة معها، كما في شأن إيران. لذلك، حرصت روسيا ودولة الإمارات، مثلا، على صوغ علاقة ثنائية مميزة على رغم أي اختلاف بينهما في شأن إيران، بل إن العلاقات الروسية– السعودية، مثلا، لم تتدهور بسبب انحياز روسيا الواضح لمصلحة إيران استراتيجيا وسوريا، وذلك بسبب التعويض عن ذلك في ساحة الحرب اليمنية، حيث روسيا تمتنع عن التدخل أو التعطيل أو التشويش.
أي علاقة ستبرز بين موسكو وطهران بعد حلب؟ ستبقى أسس العلاقة التحالفية الاستراتيجية ثابتة بالتأكيد. إنما سيكون هناك تفاوت في المواقف المبدئية ستضطر روسيا وإيران إلى معالجته، حماية للعلاقة التحالفية من الاهتزاز. فروسيا راغبة في إنهاء دورها العسكري المباشر والحيوي في حرب سورية، بينما إيران عازمة على توسيع أدوارها العسكرية في الحرب السورية. روسيا تريد تقوية الجيش النظامي في سورية بصفته ركنا أساسيا للنظام والدولة، أما إيران فإنها تريد تطبيق نموذج «الحرس الثوري» في سورية، كما في العراق، إضعافا للجيش النظامي في وجه القوات غير النظامية. هذه اختلافات جذرية وليست تجميلية.
إنما هذا لا يعني أن التحالف بين روسيا وإيران أصبح هشا، فعندما يتحوّل قاسم سليماني مزهوّا بالانتصار في حلب في خضم الإحراج الروسي لن يكون الجنرالات الروس راضين أبدا. لكن صنّاع القرار في روسيا لن يحتجوا علنا، لأنهم يدركون أن إيران عقدت العزم على تحرير الأراضي السورية والعراقية من «داعش» كي تسترجع مشروع «الهلال الفارسي»، ذلك أن تنفيذ هذا المشروع أولوية استراتيجية إيرانية يتم بمعونة روسية وأمريكية.
الأولوية التركية مختلفة؛ لأنها تصب في حماية السلطة للرئيس رجب طيب أردوغان. تركيا أقفلت ممرات إيصال السلاح والنفوذ الخليجي إلى سورية بعدما كان ممر العراق أُقفِلَ أيضا بشراكة أمريكية– إيرانية. وضعت أنقرة مصالحها العليا في السلَّة الروسية، وتخلّت -عمليا- عن موقفها الداعي إلى إسقاط بشار الأسد، بل إنها في انتمائها إلى الثلاثي «الضامن» تؤمّن الشرعية للأسد.
روسيا حصلت على الكثير من تركيا في صفقة بوتين وأردوغان، بما في ذلك ربما تخلي أردوغان عن مشروعه الأكبر، وهو إنماء «الإخوان المسلمين» في الشرق الأوسط وآسيا، فالثلاثي الضامن أشار في بياناته وتصريحاته إلى سورية «العلمانية»، المرفوضة تقليديا من جانب تركيا، وهذا لافت. تحدث الثلاثي عن وحدة أراضي سورية في الوقت الذي تعمل إيران، ميدانيا، على جغرافية النفوذ والتواصل مع «حزب الله» في لبنان، بينما تركيا تعارض قيام كيان كردي في سورية، لا سيما أن قيام الدولة الكردية المستقلة في العراق بات حتميا؛ فالمنطقة الرمادية في البقعة السورية ما زالت كبيرة، إنما الواضح أن روسيا عقدت العزم على صوغ خريطة طريق عسكرية وسياسية، تلغي التفاهمات القديمة، وتهيئ الأرضية لشراكة روسية– أمريكية جديدة نوعيا تعطي تعبير الصفقة الكبرى معنى آخر كليا.