لنعترف أن إعلام محور إيران في بيروت شاطر. أقله أشطر بكثير من إعلام خصومه٬ وأكثر قدرة على تشكيل الرأي العام٬ أكان عند جمهور المحور نفسه أو عند الشريحة
الكبيرة التي تتوسط ضفتي الانقسام السياسي٬ ومعظمها ممن كان يدور في فلك حركة «14 آذار».
في اللحظة المناسبة٬ كان هذا الإعلام حاض ًرا «لتخصيب» النتائج التي
انتهت إليها عملية تشكيل أولى حكومات عهد الرئيس ميشال عون برئاسة سعد الحريري. الحكومة هي «حكومة حلب»٬ بحسب إعلام محور إيران٬ أي حكومة الفريق
المنتصر في حلب٬ وهو في هذه الحالة حزب الله. دعك عن تهافت هذا الادعاء٬ وعن كون المنتصر في حلب أصلاً هو فلاديمير بوتين وخياراته٬ وما حزب الله إلا أداة في
استراتيجية لا يملك قرارها٬ ولا يملك معطياتها. لكن الصورة٬ صورة أن الحكومة هي حكومة حلب٬ مغرية وجذابة. لكمة استعراضية ناجحة. أضف إلى ذلك إحياء أسماء
من حقبة الرئيس الأسبق إميل لحود٬ كالوزير يعقوب الصراف٬ أو الوزير المشهور في نقد المحكمة الخاصة بلبنان٬ سليم جريصاتي٬ فيكون لديك مشهد جاهز لمنتصر
ومهزوم.
ينقل لي صديق سوري عن ضابط المخابرات السورية ووالي نظام الأسد في بيروت٬ الراحل غازي كنعان٬ قوله إن «السوريين حكموا لبنان بالوهم». وها هو حزب الله يريد
أن ينتصر في لبنان بالوهم هو الآخر٬ من دون الاستخفاف بعناصر قوته الجدية العسكرية والشعبية والسياسية.
ا له! «وهات يا لطم»!
«تخصيب» الانتصار٬ الذي يفترض أن مثلته الحكومة الوليدة٬ جعل من الوزير جريصاتي عنوانً
الحكومة نفسها تضم بين وزرائها مروان حمادة٬» العميل الإسرائيلي»٬» الحاخام»٬» معطي الإحداثيات للطائرات الإسرائيلية في حرب تموز»٬» المتآمر على حزب الله من
خلال القرار الدولي 1559 ..«كل هذه تُهم ُوجهت لحمادة الذي جرت محاولة اغتياله في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) ٬2004 بعد أسابيع من استقالته من الحكومة
آنذاك رف ًضا لتعديل الدستور وتمديد الفترة الرئاسية للرئيس إميل لحود٬ بحسب رغبة دمشق!
مع ذلك٬ نجح إعلام محور إيران في جعل توزير جريصاتي انتصا ًرا٬ ومر توزير مروان حمادة بلا أثر ُيذكر!
المفارقة أن الوزير جريصاتي٬ عاد هو نفسه إلى التنصل من المعاني والدلالات التي نسبت إلى توزيره من زاوية علاقته بالمحكمة الدولية. فهو أوضح أنه كان «جز ًءا من
المحكمة الدولية٬ فكيف أكون ضّدها؟»٬ مشي ًرا إلى عمله مستشا ًرا «لفرق الدفاع في المحكمة ولمكتب الدفاع برئاسة فرنسوا رو٬ بمعزل عن رأي المتهمين». ثم أقر بالجزئية
الأهم٬ وهي أن موقفه أًيا كان٬ ليس هو ما يصنع سياسات الحكومة٬ بل القرار الذي «تتخذه الحكومة برئاسة الرئيس الحريري».
لنعد إلى الأساسيات. تشكيل الحكومة الأخيرة برئاسة سعد الحريري هو إعلان فشل المسار الإلغائي الذي بدأه حزب الله يوم أسقط حكومة الحريري الأولى٬ في 12 يناير
(كانون الثاني) ٬2011 عبر استقالة وزراء حزب الله وحركة أمل ووزراء الجنرال ميشال عون. بعد إسقاط الحريري٬ مضى حزب الله في عملية الإلغاء٬ وفي 25 يناير
٬2011 وعبر ترهيب وليد جنبلاط٬ ومناورة تأجيل الاستشارات النيابية الملزمة التي يجريها رئيس الجمهورية٬ نجح حزب الله في انتزاع تكليف نجيب ميقاتي بتشكيل
الحكومة. بعدها بأشهر قليلة٬ أفصح عون صراحة عن مشروع الإلغاء بقوله إن الفريق الذي يمثله حجز «وان واي تيكيت للحريري» الذي «ذهب ولن يعود»!
انهارت حكومة إلغاء الحريري في 22 مارس (آذار) نتيجة الضغوط الشعبية والسياسية عليها بعد اغتيال اللواء وسام الحسن٬ على الرغم من احتضان دولي غير مسبوق لها.
تراجع حزب الله من «حكومة الإلغاء»٬ إلغاء الحريري٬ إلى «حكومة الاستبعاد»٬ أي الشراكة مع الحريري من دون ترؤسه شخصًيا للحكومة٬ التي ترأسها تمام سلام.
رغم ذلك٬ ظل الحريري هو الخصم٬ وهو محور صناعة السياسة والمواقف٬ معه وضده٬ وبقيت الحكومة هيكلاً شبه مهجور٬ ما لبث أن صدر بحقها قرار الهدم بعد تسوية
سياسة أوصلت عون إلى الرئاسة٬ وعادت بالحريري إلى رئاسة الحكومة.
تراجع حزب الله من حكومة الإلغاء٬ وهو المشروع الأصلي والمستمر لحزب الله بحق المشروع الذي يمثله سعد الحريري لبنانًيا وعربًيا٬ أًيا تكن اليوم نتائج فحوصاته
وسلامة بنيته٬ إلى حكومة الاستبعاد. ثم تراجع من حكومة الاستبعاد إلى الاعتراف القسري بسعد الحريري٬ فكانت الحكومة التي تعكس التوازن السياسي والشعبي في لبنان٬
ونقلته من الشارع إلى داخل المؤسسات بعد ست سنوات من محاولات الشطب وتزوير الإرادة الشعبية للبنانيين والاغتيال الممنهج الذي خطف ركنين من أركان الحالة
السياسية الحريرية٬ هما اللواء الحسن والوزير محمد شطح.
مشروع الإلغاء ال ُمتراجع٬ سيستمر. وله في قانون الانتخابات النيابية واستحقاقها المقبل محطة جديدة. النجاة من الفخاخ المقبلة ليست سهلة بغير استراتيجية سياسية وإعلامية قتالية٬ لا تستكين لصناعة الأوهام التي يجيدها حزب الله بأكثر مما أجادها نظام الأسد.
عودة الحريري انتصار له ولمشروع الدولة٬ ولاتفاق الطائف٬ وفرصة جديدة٬ إن ضاعت٬ سنكون حينها فعلاً أمام «وان واي تيكيت»!