ربما يكون الوقت غير مناسبٍ للمقارنة بين مذبحتين، يفصل بينهما نحو ثلاثة عقود، فالمذبحة الجديدة لم تزل مفتوحةً، والدم الذي سال من ضحاياها لم يجفّ بعد، بل ثمة دم جديد يتدفق، وآخر برسم الانفجار. ولكن، من حق الضحايا في كلتا المذبحتين، وما بينهما، وما سيتلوهما أيضا، أن يسألوا: من المسؤول؟ أما السؤال الأكثر أهمية فهو: هل هناك فرصة للاعتبار، واستدراك ما فات، وما سيأتي من موتٍ محقق؟ ليست الأسئلة كلها لتبرير جريمة القاتل، بل هي محاولةٌ، لسؤال المقتول، فيم قتل؟ ولم؟ بل أكثر من ذلك هي محاولةٌ للبحث عن قتلة "مخفيين"، ربما بدا أنهم "ضحايا"، وهم، في الحقيقة، شاركوا بغير قصد وبنياتٍ "حسنة" في الجريمة، فكانوا جزءاً من أسبابها، وضحاياها أيضا! 
في كل بقعةٍ من بقاع العرب والمسلمين، دخلها الناشطون المسلمون الذين يرفعون شعار "تطبيق الشريعة"، تحل اللعنة على العباد والبلاد، وتصحو كل شياطين الأرض، وتُستنفر الجيوش النائمة، وتتحرّك المؤامرات، لإجهاض "الحلم الإسلامي"، حتى ولو كان على مستوى "حزبٍ" متواضع، مثل "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في الجزائر، فكيف إذا شكل هؤلاء النشطون حركةً مسلحة، تنتهج طريق القوة و"الجهاد"؟ متى يفهم هؤلاء الناشطون أن عليهم أن يغيّروا استراتيجيتهم بشكل جذري وإبداعي، حتى لا يتحوّلوا إلى لعنة حقيقية، ليس على الإسلام فحسب، بل على كل أرضٍ يحلّون فيها، (سورية لن تكون المثل الأخير) 
لو أذن للرسول عليه الصلاة والسلام بالقتال، والمسلمون مستضعفون في مكة المكرمة، لتمت إبادتهم عن بكرة أبيهم. لهذا مكث ثلاثة أعوام في دعوة سرية، وحينما انتقل إلى الدعوة العلنية، لم يؤمر بالقتال، بل استمر بدعوته جهراً من دون قتال عشر سنوات، ولم يؤمر بالقتال (حتى مع الأذى والتعذيب) إلا بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وتأسيسه كيان المسلمين. 
المسلمون اليوم مستضعفون، وأي صوت علا لهم، يتم سحقه بمنتهى الوحشية، من القريب قبل 
"ليس مناسباً لوم الضحية لم قتلها جلادها، فهذا منتهى الغباء والقسوة، لكن صفحة المذبحة لم تزل مفتوحة" الغريب، فكأنهم يعيشون المرحلة المكّية الأولى، ولا يغترّ أحد بكثرة عددهم، فهم بلا كيان ولا شوكة، والشوكة التي "يعلنونها" سرعان ما تُباد، حتى ولو جاءت عبر صناديق الاقتراع، إلى هذا وذاك، فجل من يحملون راية الإسلام، ولا أقول كل، يلتبس عليهم الأمر، فيحسبون كل فرجٍ (أو فوز في الانتخابات) تمكيناً، فيقعون في المحذور، ناهيك عن صلف كثيرين منهم وجلافتهم، وربما وحشيتهم وجهلهم، في تطبيق "شعائر" الإسلام وفروضه، حتى أنه ينفر أهله وذويه منه، قبل غيره من الأعداء، فلا هو بكاسب للقريب، ولا متّقٍ شر الغريب. 
لهذا، ربما "فشلت" كل المكونات الإسلامية (السنيّة تحديداً)، مسلحةً كانت أو سلمية، في الوصول إلى هدفها، باستثناء التجربة الأردوغانية في تركيا الحديثة. وحتى هذه لم تسلم حتى الآن من التآمر الدولي، والشيطنة، وها هم يسلطون عليها اليوم صنائعهم من "الإرهابيين" الصغار، لتقويض أمن تركيا، وإلحاقها بمعسكر التجارب الإسلامية الفاشلة، إن استطاعوا. 
حينما تُهزَم في معركة، أنت عادةً لا تلعن أعداءك، ولا تلجأ إلى الدعاء عليهم، ولا إلى تنظم المظاهرات ضدهم (!)، بل تبحث عن مواطن الخلل في أدائك، للنصر والهزيمة قوانين ونواميس صارمة، لا تُحابي أحداً. لم نسمع، في مؤتة، مسلماً واحداً، صَب جام غضبه على الرومان وحلفائهم من العرب، ولا خرج أهل المدينة المنورة في تظاهرات تندّد بالرومان. 
أحد الناجين من مذبحة حماة، كتب معلقاً على برنامج الفيلم الوثائقي الذي عُرِضَ قبل فترة على شاشة قناة الجزيرة "الصندوق الأسود – حماة 82": الرسالة التي فهِمها الأسد الأب من القوى العظمى آنذاك، وخاصة الولايات المتحدة، وفقاً لوثيقة مكتوبة، صادرة عن المخابرات العسكرية الأميركية في نيسان 1982، كشف عنها الفيلم الوثائقي، كان فحواها: افعل ما تشاء لتثبيت حكمك، مع الاحتفاظ بمصالحنا ومصالح إسرائيل. للأسف ما تزال صالحة، وقد عمل بها الأسد الابن، وكأن التاريخ يكرّر نفسه. فوفقاً لشهادة توماس فريدمان: "قواعد لعبة حماة تُلعب من جديد، بواسطة بشار الأسد، ابن حافظ الأسد. يحاول النظام السوري إعادة ما فعله في حماة. ولكن بالعرض البطيء، ودونما استعجال، وبشكل تدريجي". تتوافق صعوبات الثورة السورية حالياً مع استنتاج أننا (السوريين) ما زلنا قاصرين سياسياً في التَفَكُّر والاستفادة من دروس مجزرة حماة 1982، والصراع المسلح بين النظام الأسدي والإسلاميين. 
لا أحد ينكر على من ذاق مرارة الظلم والهوان، وعانى من بشاعة جبروت نظام الأسد، أن 
"تتوافق صعوبات الثورة السورية حالياً مع استنتاج أننا (السوريين) ما زلنا قاصرين سياسياً في التَفَكُّر والاستفادة من دروس مجزرة حماة 1982"  يحلم بالحرية، ويتوق إليها، بل يعمل على نيلها، ويبذل في سبيل ذلك الغالي والرخيص. ولكن، شريطة الاستفادة من عبر الماضي، وعدم تكرار الخطأ، ودفع الثمن مرتين. أقول هذا وقلبي يعتصره الألم، ولكن كل ما قرأته عن حلب، ومذابحها، وفظائعها، سواء التي ارتكبها النظام أو المليشيا الفارسية، ولا أقول الشيعية، صبّ جام غضبه على القاتل، باعتباره السبب في كل ما حدث، ولم يكد يتطرق أحدٌ إلى ملابسات ما جرى في الجانب الآخر من أخطاء قاتلة، جرت البلاد والعباد إلى ساحة الذبح. 
ليس مناسباً لوم الضحية لم قتلها جلادها، فهذا منتهى الغباء والقسوة، ولكن صفحة المذبحة لم تزل مفتوحة، وأخشى ما أخشاه أن يستمر الخطأ، فيدفع الناس الأبرياء مزيداً من أثمان أخطاء "ثوارٍ" يلقون بأنفسهم وأهليهم إلى التهلكة، من دون حساب موازين القوة، ولا الظروف الإقليمية القائمة حاليا. اللعنة على القتلة والمعتدين، من روس وفرس ورجالات نظام فاسد مجرم، غير أن هذه اللعنة لا تكفي لوقف المذبحة، صفحة الصراع لم تزل مفتوحة، والسؤال الكبير الذي يظل مشرعاً هو: ماذا يفعل الناشطون الإسلاميون بإرث مائة عام لم يفض إلا إلى مزيدٍ من المصائب، في مصر كما في ليبيا، وسورية أيضا. هل يحلون "تنظيماتهم" ويجلسون منتظرين "فرجاً" غيبيا، أم يغيرون كل طريقتهم في العمل، فينحون كل شعاراتهم "الإسلاموية" التي تثير الرعب في قلوب الكل، ويعملون لقيام دولٍ مدنية، بحقوقٍ وواجباتٍ، ومواطنةٍ متساوية، أم ينتظرون مزيداً من الإجهاض والسحق لكل برعم يستنبتونه؟ أم يستمرون في طريقهم الذي لم يجلب غير مزيدٍ من المصائب، لهم ولأمتهم التي يجرونها إلى تهلكةٍ، وهم يريدون لها الخلاص؟

 

حلمي الأسمر